العدد 1394 / 8-1-2020

فاطمة ياسين

بين عواجل الأخبار عن لبنان والعالم العربي، تطالعنا قصة هروب رجل الاقتصاد، كارلوس غصن، من اليابان إلى لبنان، وهو الرئيس التنفيذي الذي تهاوى فجأةً من مركز القمة لواحدة من أكبر تحالفات صناعة السيارات في العالم إلى مجرّد شخص هارب.. ربط القضاء الياباني غصن بقضايا فساد وسوء استخدام أموال الشركات التي يديرها خدمةً لصالحه الخاص. وكان الرجل ذو النظرة الكاريزمية والملامح الحادّة قد أنقذ مجموعة الشركات المؤتلفة من الإفلاس، ورفعها إلى مصافّ الشركات الناجحة في سوق السيارات. وُضِعَ غصن في الحجز، قبل أن يطلق سراحه بكفالة، ليصبح خارج السجن، ولكن تحت إقامة جبرية. يخترق الرجل الطوق الأمني المفروض حوله في اليابان، طائراً إلى لبنان، في عملية يبدو أنها مغلفة هي الأخرى بالفساد. أثبت غصن سابقاً أنه رجل اقتصاد فريد من نوعه، ويثبت الآن أنه رجل عصابات قادر على حبك مؤامرات بوليسية قادته إلى الإفلات من القبضة الأمنية اليابانية.

بعد أن ظهر غصن في لبنان، اتهم النظام القضائي الياباني بالتآمر وتلفيق التهم له، وأكّد أنه لم يهرب، ولكنه تخلص من ظلم سياسي وأمني لحق به. يتهم غصن اليابان، البلد المهذّب الذي يمتلك سمعةً تكنولوجيةً محترمة، وينهي مسيرة نجاحه العملي برحلةٍ جويةٍ محشوراً داخل صندوق آلة الكونترباس الموسيقية. في لبنان الذي استقبله بترحاب، تزدحم الطرقات بالثائرين الذين يطالبون بالتخلص من الفساد، ويشتكون من طبقةٍ سياسيةٍ فاشلةٍ أو فاسدة، لم تفلح، طوال ثلاثين عاماً، في إنتاج نظام سياسي مستقر، يعمل لصالح الشعب، ولم تُنجب رجل اقتصاد واحدا نزيها، يخترق الطبقة الراكدة، ويجد لنفسه مكاناً يستطيع، من خلاله، العمل لصالح تنمية حقيقية. غصن اللبناني الناجح جداً على مستوى العالم قد يعتبره كثيرون في لبنان مثلاً أعلى، ويمكن له أن ينجح في إدارة حكومة بلد صغير ناتجه المحلي 60 مليار دولار، فيما تبيع شركة نيسان وحدها، وهي إحدى الشركات التي يديرها غصن، من السيارات، ضعف هذا المبلغ، ولكن غصن موجود الآن في لبنان مُكرهاً، وهو ليس في وارد تقديم العون، فإمبراطوريته تقوّضت، وسيعيش بقية حياته على الهامش. معروفٌ وجود لبنانيين كثيرين خارج بلدهم، ويفوق تعدادهم من في الداخل. وتقدر إحصائية حديثة أنه في مقابل كل لبناني داخل لبنان يعيش خمسةٌ خارجه، وقد سجلت هذه الجاليات الكثيفة خارج لبنان نجاحاتٍ مميزةً وجديرةً بالانتباه على أصعدةٍ مختلفة، منهم ماريو قصار، وهو منتج لبناني بارز ساهم في شهرة الممثل سلفستر ستالون عبر سلسلة أفلام "رامبو"، ونيكولا حايك، مبتكر ساعة سواتش الشهيرة الذي ساهم في إنقاذ سوق صناعة الساعات السويسرية. وفي صناعة الموضة والأزياء، هناك المصمم العالمي إيلي صعب. وفي الأدب هناك أمين معلوف رائد الكتابة الروائية التاريخية، والحائز على "غونكور"، أرفع جائزة أدبية فرنسية. وغبريال يارد صاحب الأوسكار عن موسيقى فيلم المريض الإنكليزي. وتطول اللائحة بشكلٍ مفرط، حتى تعتقد أن الإبداع اللبناني في الخارج يكاد أن يكون القاعدة، وهو أمرٌ يدلّ على فشل السياسيين اللبنانيين، ويبرّر بقاء الشعب في الشوارع أشهرا، احتجاجاً على حكومته.

لبنان الدولة الصغيرة التي تحتضن إثنياتٍ وطوائف وأديانا متنوعة كانت تطمح أن تكون ميناءً عالمياً، وعاصمة للثقافة والفكر والجمال، وقد مثَّلت هذه القيم بالفعل، في وقت ما، بما احتوته من مطابع ومسارح وموسيقى. لم يترك الجوار هذا البلد يبني نهضته الخاصّة، فتدخل السوريون والإسرائيليون والسعوديون والإيرانيون، ودول أخرى عظمى وغير عظمى، حتى اضطّر اللبنانيون لأن يبحثوا عن موطئ قدم، بعيداً عن شواطئ المتوسط. وأصبح لبنانيو الخارج يشكلون أضعاف من هم في الداخل، وفيما يفخر هذا البلد بأسماء لبنانية ذات بريق وحضور عالمي، ما زال لبنانيو الداخل يصارعون أجهزة الصرّاف الآلي للحصول على مصروف اليوم الواحد.