العدد 1470 /14-7-2021
سعد كيوان
يكثر الكلام، هذه الأيام،
عن عودة لبنان إلى زمن "حكم القناصل" إثر التحرك الذي أطلقته سفيرتا فرنسا
والولايات المتحدة في بيروت، بتوجههما، قبل أيام، إلى السعودية للبحث في كيفية مساعدة
لبنان، لانتشاله من الأزمة التي يتخبّط بها، والسبل الكفيلة بمنع انهياره الكامل. كما
شرحت السفيرتان، بشكل واضح وصريح، الهدف من مهمتهما في بيانين منفصلين، عشية سفرهما
إلى الرياض. وتناول البحث أيضاً محاولة إقناع المملكة، المنكفئة بالكامل عن الساحة
اللبنانية، بضرورة المساهمة في حلّ عقدة تشكيل الحكومة المستعصية منذ أكثر من ثمانية
أشهر، وهذا ما لم يرد طبعاً في البيانين. وجاءت هذه الخطوة بعد الاجتماع الذي عقد بين
وزراء خارجية أميركا وفرنسا والسعودية، وبحثوا فيه الوضع في لبنان، على هامش قمة الدول
العشرين التي عقدت في إيطاليا، الشهر المنصرم (يونيو/ حزيران).
وتعود مرحلة "حكم القناصل"
إلى يوم كان جبل لبنان تحت الحكم العثماني (1516 - 1918)، واندلعت عام 1845 انتفاضة
شعبية ضد نظام القائمقاميتين الذي كان سارياً في تلك الحقبة، والذي يقوم على تعيين
قائم مقام يمثل الموارنة وآخر يمثل الدروز. وتبعتها مجازر 1860 بين الدروز والموارنة،
ما اضطر السلطنة حينها إلى وضع نظام جديد للحكم، فتح الباب أمام تدخل القناصل الأوروبيين
الذين أصبحوا حاضرين بقوة في جبل لبنان، بحكم أهمية موقعه على البحر المتوسط كصلة وصل
بين الشرق والغرب، تجارياً وثقافياً. وبدل أن يلغي التدبير الجديد ازدواجية سلطة نظام
القائمقامية، فقد كرّس التمثيل والتوزيع الطائفيين، وعزّزه عبر تكوين مجلس موسع يعاون
القائمقام، ومؤلف من عشرة أشخاص موزّعين على الموارنة، والدروز، والسنّة، والروم الأرثوذكس،
والروم الكاثوليك، ما ساهم في تعميق الخلافات الطائفية، وشرّع الباب واسعاً أمام تدخل
الدول الأوروبية في شؤؤن لبنان، بدءاً بتبنّي فرنسا الموارنة، وانكلترا الدروز، وروسيا
القيصرية الروم الأرثوذكس. وطبعاً، منذ ذلك الزمن، راح الباب العالي والقناصل، كلٌّ
من موقعه، يعملون على زرع بذور التفرقة الطائفية، بدعمهم طائفةً وتحريضهم على أخرى.
وتمكّن القناصل من دفع الأتراك إلى تحمل المسؤولية بشكل مباشر، وإغراقهم في اللعبة
الطائفية، عبر استبدال نظام القائمقاميتين بتعيين متصرّفين (حكام) أتراك بدل المحليين
من الطوائف المسيحية في مناطق جبل لبنان، بعدما تغلغلوا جيداً في طول جبل لبنان وعرضه،
مستفيدين من كره السكان ما لاقوه من جوْر، وما عانوه من استبداد، وبالأخص المجاعة التي
فتكت بهم خلال الحرب العالمية الأولى، على يد السلطنة العثمانية التي كانت قد دخلت،
في بداية القرن العشرين، في حالة نزاع، ثم انهارت. ودخل لبنان بعدها في مرحلةٍ قضت
بوضعه تحت الانتداب الفرنسي، بعدما كانت فرنسا قد أعلنت دولة "لبنان الكبير"
بحدوده الحالية عام 1920.
ما هو حال لبنان اليوم، وأيّ
مقارنة وأيّ أوجه شبه بين اليوم والأمس، ذاك الأمس الذي مضى عليه أكثر من 150 سنة،
مع فارق الزمن والظروف الكيانية والدولتية، والجيوسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية،
والتحوّلات والتطورات التي طرأت، بطبيعة الحال، على الدول والشعوب؟ لبنان اليوم دولة
مستقلة ذات سيادة، وليس إمارة تحت الاستعمار أو الانتداب، من بين الدول الأوائل في
المنطقة التي تمكّنت من الحصول على استقلاله منذ 78 سنة (1943)، ويتمتع بنظام ديمقراطي
برلماني بمؤسسات دستورية، ويفاخر به بين محيطه، وفي المشرق والمغرب العربيين، حيث سادت
وتسود أنظمة قومية وشمولية وديكتاتورية. ويتباهى بتنوعه وبتعدّديته المعبّر عنهما بأحزاب
وقوى سياسية تتولى حكمه وإدارة شؤونه، وهو عضوٌ مؤسّس في الأمم المتحدة وعضو مؤسّس
في جامعة الدول العربية. وكان رائداً في تعزيز سياسة التضامن العربي وعدم الغرق في
المحاور، وهذا ما عمل عليه فؤاد شهاب، طوال فترة حكمه، من خلال بناء الدولة والمؤسسات،
وترسيخ سياسة الحياد الإيجابي، وتعزيز الطبقة الوسطى. وكان لبنان سبّاقاً في مجال تبنّي
قضية الشعب الفلسطيني والدفاع عنها في المحافل الدولية. كما يتميز بحريته وانفتاحه
على الغرب، وبدوره الثقافي وصروحه العلمية و...
لكن، هل ما زالت بطاقة التعريف
و"الاعتماد" هذه تجعله اليوم أفضل حالاً من زمن القناصل والوصايات؟ لبنان
اليوم في حالة انهيار، هي الأسوأ في تاريخه على المستويات والصعد كافة، سياسياً واقتصادياً
وأمنياً واجتماعياً ومالياً (الدولار يساوي نحو 20 ألف ليرة، وقبل سنة ونصف كان نحو
2000 ليرة)، في حين كانت عملته عام 1970 في المرتبة الرابعة عالمياً، ومعتمدة في الأسواق
المالية الأوروبية، وكانت الطبقة الوسطى هي عماد البناء الاقتصادي والاجتماعي، ودخل
الفرد يوازي 1200 دولار سنوياً (الدولار كان يساوي يومها 2.5 ليرة). واليوم يقارب لبنان
المجاعة (50% يعيشون تحت خط الفقر) في القرن الواحد والعشرين وليس في التاسع عشر. لا
كهرباء، لا ماء، ولا بنزين، ولا دواء. أما في السياسة، فهناك اليوم طبقة ماكيافلية
مافياوية فاسدة جشعة، ومرتهنة للخارج، تقف متفرّجة أمام انهيار البلد، لا بل تساهم
في انهياره وفي سرقة أموال الناس المودعة في المصارف، بعد أن هرًبت أموالها إلى الخارج.
والبلد اليوم يعيش عزلة عرببة ودولية خانقة؟! إنّها طبقة تحالف سلطة المال والمليشيات
التي تجسّد معادلة "السلاح مقابل الفساد". وبما أنّ الغلبة في النهاية للسلاح
الذي يملكه ويجسّده بامتياز حزب الله، ليصبح "حكم القناصل" نقطة في بحر تبعية
حزب الله لملالي ايران ووصايتها على قرار السلطة في لبنان التي يعبر عنها بوضوح رئيس
الجمهورية ميشال عون، الذي أكد أكثر من مرة أنّ الجيش (الشرعية) ضعيف وغير قادر على
الدفاع عن لبنان وسيادته. ولذلك الدولة بحاجة لسلاح حزب الله، أي لوصاية لإيران. والأنكى
أنّ حزب الله الذي يجاهر بتبعيته وإمرته لإيران، مثلما يعلن ويجاهر زعيمه حسن نصرالله
مراراً وتكراراً أنّه "جندي في إمرة ولاية الفقيه" يحذر هو وإعلامه من وصاية
جديدة على لبنان، ومن عودة إلى "حكم القناصل". وهو ربما لا يعلم أنّ تلك
الوصاية قبل قرن ونصف قرن، ساهمت في محو الأمية وتعميم العلم والمعرفة بافتتاح الإرساليات
الفرنسية للمدارس وللجامعات، وبإنشاء المستشفيات والمؤسسات الصحية، ووضع أسس بناء الدولة
عبر تأمين الخدمات الأساسية، ومدّ الطرقات وسكك الحديد وخطوط النقل، واستصلاح الأراضي
الزراعية انطلاقاً من جعل سهل البقاع خزّان لبنان بالقمح والحبوب وغيرها الكثير...
وفي النهاية، اضطر القناصل، وفي مقدمهم الفرنسي، أن يرحلوا. أما اليوم، فإنّ البلد
انهار تحت حكم سلطة "ممانعة" مرتهنة للوصاية الإيرانية، إذ كلّ القطاعات
على شفير الإفلاس، فالمؤسسات العامة والخاصة تقفل الواحدة تلو الأخرى، من القطاع الصحي
الاستشفائي إلى القطاع التعليمي الجامعي، إلى القطاع السياحي، وبالأخص القطاع المصرفي
الذي كان بمثابة مصرف العرب وملاذ الرساميل العربية والأجنبية، وغيرها من القطاعات
الأخرى. والأخطر من ذلك كله ناسه الذين يهاجرون بكثافة بعد تفجير مرفأ بيروت، ولبس
هناك مِن متهم حتى اليوم! ومع ذلك لا حكومة في لبنان، طالما أنّ الوصي الإيراني يحتاجه
ورقة رابحة على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة في فيينا، التي يبدو أنّها متعثرة
والكباش حولها طويل وشاق، فيما بدأت قوى سياسية وثقافية وأصحاب رأي يتكلمون عن احتلال
إيراني للبنان!
لعلّ "فشّة الخلق"
التي أطلقتها أستاذة جامعية في صفحتها في "فيسبوك" تشكل رداً صادقاً وعفوياً
وحقيقياً على خاربي البلد وناهبيه الذين يعلو صراخهم اليوم ضد الوصاية و"حكم القناصل":
"يا ريت! والغلاء فاحش وطاحش وما في ماء ولا كهرباء ولا بنزين ولا دواء ولا حليب
للأطفال؟! ورجعنا نلجأ للبطرك والمفتي؟ اي لاء أحسن 100 مرة تحكمنا فرنسا!!
100.000 مرة! يا ريت... يلي بيقلقني أكتر ويزيد بمعاناتي وبيمنعني من النوم إنّه أرجع
شوف نفس الأشخاص بعد الانتخابات، ما عندي أوهام مع شعب هلقد مطيّف!". وختتمت:
"يا ريت ترجع تحكمنا فرنسا".