وائل نجم - كاتب وباحث

بدأت يوم الثلاثاء (2/8/2016) جولة جديدة من الحوار الوطني بين القوى السياسية الممثّلة في المجلس النيابي، واختلفت هذه الجولة عن الجولات السابقة، إذ انعقدت على مدى ثلاثة أيام متتالية، ولكنها لم تكن مفتوحة طوال هذه الأيام، بل انحصرت بالحضور كل يوم إلى مقر الرئاسة الثانية في عين التينة لبحث الأزمات المتراكمة ومحاولة إيجاد الحلول لها، ولا سيما أزمة الشغور في الرئاسة الأولى التي تعتبر مفتاح الحل لبقية الأزمات باعتراف أغلب اللبنانيين. 
إذاً «ثلاثية الحوار» هذه كان يجب أن تستكمل البحث والنقاش في البند الاساسي على جدول أعمالها المتمثّل بانتخاب رئيس للجمهورية، إذ إن الفراغ في سدة الرئاسة الأولى مضى عليه قرابة عامين وبضعة أشهر من دون أن تلوح في الأفق أية بارقة لإنهاء هذا الفراغ عبر انتخاب الرئيس. إلا أن الأجواء التي سبقت انعقاد هذه الجولة لم تشر إلى أي نوع من التفاؤل، فمواقف القوى السياسية على حالها من الاستحقاق الاساسي، و«تكتل التغيير والإصلاح» برئاسة الجنرال ميشال عون ومن خلفه ومعه «تكتل نواب حزب الله» يرفضون الحضور في جلسات الانتخاب إلا إذا سبق ذلك اتفاق على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، معطّلين بذلك نصاب جلسات الانتخاب في محاولة مكشوفة لفرض رئيس وحيد (عون)  على اللبنانيين، ومع أن هذا التحالف السياسي النيابي لا يحوز الأكثرية النيابية، لكنه يأخذ البلد أسيراً من خلال تعطيل جلسات الانتخاب. وفي مقابل ذلك يتمسك فريق آخر، في طليعته تيار المستقبل، برئاسة سعد الحريري، واللقاء الديمقراطي برئاسة وليد جنبلاط، وحتى «كتلة التحرير والتنمية» برئاسة نبيه برّي، بالمرشح سليمان فرنجية. وللمفارقة فإن فرنجية حليف تاريخي لحزب الله ولعون أيضاً، ولكن هذا التحالف النيابي (الحريري، جنبلاط، بري)، مع أنه يملك الأكثرية التي تؤمّن الفوز لأي مرشح، إلا أنه لا يستطيع تأمين نصاب انعقاد جلسات الانتخاب (87 نائباً). وأمام هذا المشهد وهذه المواقف مرّ عامان على الفراغ وعلى الأزمات المتلاحقة التي تتوالد وتتكاثر يوماً بعد يوم، حتى أن الكثير في لبنان بات يعتقد أن القضية ليست قضية انتخاب عون أو فرنجية رئيساً، بمقدار ما هي قضية سياسة تعطيل ينتهجها «حزب الله» في هذه المرحلة التي يخوض فيها حروبه في سوريا دعماً للنظام السوري في مواجهة الشعب السوري، ولا يريد أن تستقر الأمور في لبنان على مستوى المؤسسات الدستورية قبل انقشاع غبار المعارك هناك لمعرفة مصير ومستقبل سوريا ونظامها، وحتى يتم البناء على الشيء مقتضاه، كذلك باتت هناك قناعة بدأت تتشكل عند كثير من اللبنانيين، أن هدف هذا التعطيل الممنهج على مستوى مؤسسات الدولة، ولا سيما رئاسة الجمهورية، هو الضغط المتلاحق على اللبنانيين من خلال الأزمات لإرغامهم على القبول بفكرة المؤتمر التأسيسي، أو ما يمكن أن نسمّيه وضوحاً، فكرة نسف النظام السياسي الحالي القائم والمستند إلى اتفاق اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية، أو ما يعرف بوثيقة الوفاق الوطني التي باتت دستور البلاد منذ عام 1989 والقائم على المناصفة والتوازن بين المكوّنات اللبنانية، لمصلحة نظام سياسي آخر يعكس، بحسب وجهة نظر الساعين إليه، أحجام القوى الجديدة  في البلاد، المستندة أساساً إلى هيمنة السلاح في الداخل وحتى في الخارج.
ثلاثية الحوار التي انعقدت خلال الأيام الماضية تحت شعار البحث في طرق حل الأزمة عبر انتخاب رئيس للجمهورية، وبحسب وجهة نظر صاحب الدعوة وراعي الحوار (الرئيس نبيه برّي)، فإن الحلّ ينطلق من البحث في سلّة متكاملة تعالج ملف الرئاسة الأولى، وقانون الانتخاب، وتشكيل الحكومة، وهذا ما يرفضه أطراف آخرون باعتباره يطيح بشكل غير مباشر القواعد الدستورية الناظمة للحياة العامة ولمثل هذه العمليات، ويكرّس أعرافاً جديدة تأخذ قوة النصوص الدستورية، خاصة عندما تكون هذه النصوص حمّالة أوجه، وبذلك تتحوّل هذه الجولات الحوارية إلى ما يشبه المؤتمر التأسيسي الذي يضع اللبنات الأولى والأساسية للنظام السياسي الذي يطمح إليه البعض ممن يحتكر القوة والسلاح في لبنان، ولذلك فإن حديث السلّة المتكاملة دفع أطرافاً سياسية إلى طرح ملف السلاح غير الشرعي حتى يكون أيضاً جزءاً من الحوار والحل باعتباره أساس المشكلة. وهنا تبرز ايضاً إشكالية جديدة وأكثر خطورة، إذ إن الدخول في مثل هذا البازار يجعل ثمن التخلّي عن السلاح الذي يحتكره البعض هو الهيمنة الكاملة، ربما، على الدولة بمؤسساتها الدستورية والسياسية والسيادية والأمنية والعسكرية وغيرها.
اليوم بدت «ثلاثية الحوار» وكأنها نوع من السباق بين محاولات العمل لإيجاد الحلول والمخارج للأزمات التي يعنيها البلد، وبين سعي البعض إلى تحويل الثلاثية والحوار معها إلى ما يشبه المؤتمر التأسيسي الذي ينسف ويلغي كل شيء دستوري لمصلحة إنتاج صيغة جديدة إن لم تكن عبر النص الدستوري فعبر العرف الدستوري الذي يصبح مع الزمن أقوى من النص الدستوري، وبذلك يمكن تحقيق بعض من تطلعات وأهداف «المؤتمر التأسيسي» المنشود، إلا أنه يغيب عن ذهن البعض أن هذه المساعي المكشوفة قد تورط البلد بما لا تُحمد عقباه إذا شعر الشركاء الآخرون بأن العرقلة وهذه المحاولات تستهدف السيطرة الكاملة على البلد ونسف الميثاق الوطني بطريق غير مباشرة، وعندها وكما قال الرئيس تمام سلام لرئيس لجنة الأمن في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجوردي عندما زاره في السرايا الحكومية: «لبنان سيذهب إلى الانهيار التام».