وائل نجم - كاتب وباحث

ثقيلة ومحرجة مرّت الدقائق واللحظات الأولى من ليل الجمعة الفائت في المدن التركية، لا سيما في العاصمة أنقرة ومدينة اسطنبول، بعد تفشّي نبأ محاولة الانقلاب الفاشل التي حاول القيام بها عدد من ضباط الجيش من رتب مختلفة وبتنسيق قلّ نظيره على مستوى دولة كبيرة مثل تركيا. اللحظات الأولى لمحاولة الانقلاب اعطت انطباعاً عاماً، خاصة خارج تركيا، أن الأمور حسمت لمصلحة القوى الانقلابية في ظل حملة إعلامية كبيرة تولت ذلك، حتى ساد نوع من الاحباط العام في صفوف كل القوى التوّاقة إلى الخلاص من حكم عسكر، والداعمة لثورات الشعوب العربية، والمراهنة على الدور التركي في حماية ما بقي لها من قلاع في معركتها من أجل استعادة حقوقها وحريتها وإرساء نوع من المسار الديمقراطي في مجتمعاتها وبلدانها. ولكن ظهور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية عبر تطبيق «فيس تايم» وطلبه من الشعب التركي التصدّي لهذه المحاولة الانقلابية، وظهور رئيس وزرائه عبر اتصال هاتفي مع قناة أخرى، وطلبه من الشرطة وضع حد لمحاولة الانقلاب، ومن ثم اندفاع الناس في الشارع بأعداد كبيرة وغفيرة للتصدّي لمحاولة الانقلاب، جعل المراهنين على تركيا الديمقراطية يستعيدون الأمل بإمكانية إفشال الانقلاب، ولكن الأهم الآن أن هذه المحاولة الانقلابية كشفت وجوهاً كثيرة على حقيقتها، سواء في الداخل، أو في الخارج، سواء من الأصدقاء أو من الخصوم والأعداء للدولة التركية والشعب التركي، ولحزب العدالة والتنمية وحكومته ورئيسه.
على مستوى الداخل التركي كشفت المحاولة قيادات في الجيش والشرطة والقضاء وحتى من رجال الاعمال والتعليم وقفوا إلى جانب الانقلاب وخططوا له وحاولوا تنفيذه، ومن بين هؤلاء جنرالات برتب عليا وفي مواقع حساسة بينها من هم بالقرب من أردوغان ذاته (سكرتيره العسكري)، في مقابل قيادات أخرى رفضت الانقلاب وكانت إلى جانب المسار الديمقراطي للبلاد، وفي طليعة هؤلاء،  رئيس الاركان، وقائد الجيش التركي الأول، فضلاً عن عدد  آخر من الضباط من رتب عليا أيضاً. وأظهرت محاولة الانقلاب أن جهاز الشرطة التركية متماسك ويقف إلى جانب الحكومة، وكذلك بالنسبة إلى جهاز الاستخبارات العامة والقوات الخاصة. أما القضاء فقد ظهر أن عدداً غير قليل من القضاة متورط بمحاولة الانقلاب بطريقة من الطرق، وهو ما فسّره حجم التوقيفات التي طاولت جهاز القضاء. فيما أظهرت وسائل الاعلام التركية أنها حرّة بفضل مساحة الحرية والديمقراطية التي أرساها حكم حزب العدالة والتنمية على مدى سنوات من الحكم. أما اللاعب الأبرز على مستوى الداخل، فقد كان الشعب الذي انصهر بكليته وعلى اختلاف توجهاته في التصدّي لمحاولة الانقلاب. 
أما على مستوى الخارج، فقد كانت الصورة لا تقل أهمية عن الداخل، وكشفت محاولة الانقلاب وجه الاصدقاء من الاعداء والخصوم. 
فعلى المستوى الدولي تريثت معظم دول العالم في رفض الانقلاب والتنديد بالاجهاز على المسار الديمقراطي، خاصة تلك الدول التي تتشدق بالديمقراطية وحقوق الانسان، وهنا يبرز التريث الأمريكي في إصدار بيان يرفض الانقلاب ويعلن تأييد الحكومة المنتخبة حتى جلاء الصورة بشكل نهائي لصالح الشعب والحكومة، بل على العكس من ذلك نُسب إلى السفارة الأمريكية في أنقرة وصفها لما يجري في تلك الليلة بأنها ثورة يقوم بها الاتراك.
وفي مقابل عدم الحماسة الامريكية سجّل أيضاً تريّث روسي في التنديد بالانقلاب بانتظار جلاء الصورة بشكل نهائي، كما سجّل غياب موقف واضح وسريع من معظم الدول الأوروبية التي طالما تتغنّى بقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، وطالما كانت تضع فيتو على دخول تركيا إلى نادي الاتحاد الأوروبي بالنظر إلى تاريخ الانقلابات العسكرية. 
في كيان الاحتلال الاسرائيلي لم تكن الصورة مختلفة، بل على العكس كان هناك انتظار لنجاح الانقلاب وقد صرح بعض الاعلاميين الصهاينة عن لحظة انتظار في الكيان الاسرائيلي لإعلان نجاح الانقلاب للاحتفال بالمناسبة. 
على مستوى الدول العربية كان أول من هلّل للانقلاب في تركيا سلطة الانقلاب في مصر التي ذهبت صحافتها ووسائل إعلامها الموجّهة إلى حدود التعاطي مع الانقلاب على أنه قد نجح وقد أطيح أردوغان من السلطة في صورة حاولت أن تعكس شماتة بالشعب التركي، وكذلك حصل في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري من سوريا حيث أرغم النظام الناس على الاحتفال المبكر بنجاح الانقلاب.
أما في لبنان، فلم يكن المشهد مختلفاً كثيراً، فقد هلّل بعض أدعياء الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان من السياسيين والمنظمات والأحزاب للانقلاب العسكري، وتناسوا أن العسكر هناك يطيح بجزمته القيم التي ينادون بها وينتقدون غيرهم لأجلها، حتى أن بعض الذين كانوا يصدّعون رؤوسنا صباح مساء بالحديث عن الحرية والديمقراطية وقيم الانسان وما سواها من تلك المفردات، راح يتحدث عن اقتلاع للنظام وضرب لبنيته، وراح يهلل لعودة العسكر إلى السلطة.
في المقلب الآخر لم تكن الأمور بحالة أفضل. فأدعياء الممانعة والمقاومة لم ينتظروا ولو لحظات لإعلان احتفالهم بسحق الانقلاب للحياة الديمقراطية في تركيا، وأساساً هؤلاء لا يعرفون معنى للديمقراطية والحرية الحقيقية، ولا يؤمنون بها. هؤلاء أنسوا العيش في ظل الانظمة المستبدة التي لا تعرف لاحترام حرية وكرامة الانسان معنى، وبالتالي لا معنى لمساءلتهم عن هذه النقطة. لكن اللافت في الموضوع أنهم يعلون من شأن قضية فلسطين، ويتخذون منها شعاراً ينشدونه في كل تصرفاتهم ومواقفهم، ولكنهم للأسف نسوا أن نجاح الانقلاب، على الرغم من ملاحظاتهم على أردوغان وحكومته وحزبه، لن يكون في مصلحة فلسطين. 
الحقيقة أن محاولة الانقلاب العسكري في تركيا كشفت الكثير من الوجوه على حقيقتها، وكشفت العديد من النيّات المبيّتة، ولكن الأهم أنها كشفت حجم المؤامرة والتخطيط الذي يعمل له أعداء أمتنا لهذه المنطقة، وقد لجأوا إلى إعطاء الضوء الاخضر لقيادات في الجيش للانقلاب على الديمقراطية لأنهم أدركوا جيداً أن تركيا بوضعها الحالي وسياسة حكومتها باتت صخرة قوية بوجه مشاريعهم التي يريدونها للمنطقة، ولكن يا ليت قومي يعلمون.