بقلم: وائل نجم

  قرابة الشهر مرّ على تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة الجديدة بعد الانتخابات النيابية التي جرت في السادس من أيار الماضي والأمور على حالها من الجمود والمراوحة، بل والتراجع إلى الوراء. استمع الرئيس المكلف إلى آراء النواب والكتل النيابية ومطالبهم، وتشاور مع رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي، وأجرى مروحة اتصالات مع أغلب القوى السياسية الموجودة في المجلس النيابي وحتى خارجه، ولكن حتى الآن من دون أية نتيجة أو جدوى أو تقدّم.  
البعض أرجع سبب المراوحة والجمود إلى تدخلات خارجية من أطراف ليس لها مصلحة في الوقت الحالي تأليف الحكومة، لأنها تريد أن تربط بين لبنان وبقية المنطقة من ضمن صراع المحاور الإقليمية الذي يعبّر عن نفسه، أو يمثّله بشكل رئيسي وأساسي قطران أساسيان هما السعودية وإيران. وقد يكون ذلك سبباً وجيهاً لعدم تقدّم مساعي التأليف.
والبعض أرجع السبب إلى صراعات ونزاعات داخلية بين الكتل والقوى السياسية على الحصص الوزارية، ومحاولات بعض الأطراف الداخلية إقصاء بعض الأطرف الأخرى، في إطار المنافسة بين تلك القوى على احتكار تمثيل شرائح مجتمعية ومكوّنات معينة بعينها، وقد يكون ذلك أيضاً صحيحاً وسبباً وجيهاً لعدم تقدّم مساعي الـتأليف.
إلا أنّ الشيء اللافت في الآونة الأخيرة، والذي يحمل في طياته تهديداً خطيراً للنظام السياسي الذي قام على أساس وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، هو في محاولة تجاوز الصلاحيات و«خلْق» أعراف دستورية جديدة في لبنان تكرّس نوعاً من التفسير لبعض المواد الدستورية التي لا تحتاج إلى كثير عناء لفهمها وفهم مضمونها، وهنا يمكن الحديث عن محاولة لتجاوز دور الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري من خلال التدخل في هذه الصلاحيات المنوطة به حصراً، في محاولة لاستعادة ماضٍ كان فيه رئيس الحكومة بمثابة الوزير الأول في دستور ما قبل الطائف.
لقد بدأ اللبنانيون يتلمّسون مكامن العُقَد التي تحول دون تأليف الحكومة في وقت قريب وسريع، إذ إن محاولات فرض أعراف جديدة في عملية تأليف الحكومة من مثال أن يكون لرئيس الجمهورية حصة وزارية، أو أن يكون نائب رئيس الحكومة من حصة رئيس الجمهورية، أو أن يكون لكل طرف سياسي أو كتلة نيابية ممثل في الحكومة، ونحن في نظام ديمقراطي برلماني، يعني أننا نقوم بتفريغ هذا النظام من مضمونه وجوهره، وبالتالي تكريس هيمنة جديدة بطريقة مختلفة لا تخدم المصلحة الوطنية، ولا تزيد قوة البلد، ولا تسهم في استقراره وهدوئه.
لا بدّ من القول إننا في دستور ما بعد الطائف لم يعد هناك شيء اسمه «عهد الرئيس». تلك التسمية كانت تطلق على الفترة التي سبقت دستور الطائف على اعتبار أن رئيس الجمهورية كان فيها يمثّل رأس السلطة التنفيذية، وهو الذي يشكّل الحكومة ويديرها. كانت تلك الفترة وبتلك الصفة تسمى «عهد الرئيس». اليوم لم يعد رئيس الجمهورية رأس السلطة التنفيذية، بل بات في دستور الطائف، الحكَم بين السلطات بصلاحيات واضحة ومفهومة لأداء هذا الدور وحفظ البلد. تحوّل النظام في دستور الطائف من رئاسي برلماني، إلى ديمقراطي برلماني، الحكومة مجتمعة فيه، هي المسؤولة أمام المواطنين. بل أكثر من ذلك من حق وصلاحية الحكومة أن تجتمع وتأخذ ما تريد من قرارات بعيداً عن رئيس الجمهورية، وقد لحظ الدستور وجود مقر خاص ومستقل لمجلس الوزراء، تجتمع فيه الحكومة، وتمارس منه السلطة، ويترأس هذا المجلس رئيس الحكومة، فإذا حضر رئيس الجمهورية اجتماع المجلس في مقرّه الذي أفرد له الدستور حيّزاً واضحاً، يترأس الجلسة ويديرها. حتى جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء فإن من يضعها هو رئيس الحكومة، ويحق لرئيس الجمهورية إذا حضر الجلسة وترأسها أن يطرح على المجلس بنوداً من خارج جدول الأعمال.
لا بدّ من القول أيضاً إنّ النظام الحالي هو ديمقراطي برلماني من صلاحية الرئيس المكلف فيه أن يؤلف الحكومة التي يريدها وأن يذهب بها إلى المجلس النيابي، فإما أن يحصل على ثقة المجلس، وبالتالي تمارس الحكومة، بتلك الثقة، السلطة وفق ما أقره الدستور، وإما أن يمتنع المجلس عن منح الثقة للحكومة المُقدّمة، وبالتالي تتحوّل إلى تصريف الأعمال. أمّا أن تُفرَض شروط وحصص على الرئيس المكلف ومن ثم بعد ذلك محاسبته أمام المجلس النيابي، وأمام الرأي العام على الإخفاق والفشل أو حتى النجاح والإنجازات، فليس من الإنصاف، وليس من النظام الديمقراطي الحقيقي.
بهذا المعنى يمكن القول إن الحق الحصري لتأليف الحكومة هو حصراً عند الرئيس المكلف، وليس لأحد أن يفرض عليه أي شيء، وليس لأية جهة أو مؤسسة في الدولة أن تتدّخل في عملية التأليف، سوى المجلس النيابي عندما تُطرح الصيغة الحكومية أمامه للنقاش والتصويت.
إن أبرز ما يعطّل عملية تأليف الحكومة هو حجم التدخلات من أكثر من جهة في عملية التأليف، ومحاولات تكريس أعراف جديدة تعيد إنتاج الأزمة من جديد، وإن أخطر ما يتهدد البلد ونظامه في هذه المرحلة هو هذه التدخلات والتفسيرات التي تريد «خلْق» أجواء وأعراف تطيح النظام الحالي لمصلحة نظام جديد قديم يعيد إنتاج الهيمنة تحت عنوان القوة وبعيداً عن أي تفكير جدّي باستنهاض البلد من أزماته الحقيقية.}