وائل نجم - باحث وكاتب

أخيراً، بعد مئتين وتسعين يوماً بالتمام والكمال من الفراغ والشغور الرئاسي، وبعد خمس وأربعين دعوة لجلسات انتخاب رئاسية، وبعد انسحاب مرشحين رئاسيين من السباق الرئاسي بفعل التعطيل أو اليأس أو الاحباط، وبعد حصر المرشحين للرئاسة بمرشح واحد «لا ثاني له»، وبعد مخاض عسير وتنازلات وأجواء محبطة، تمكّن المجلس النيابي من انتخاب المرشح الوحيد للرئاسة، الجنرال ميشال عون، وأنهى بذلك مرحلة طويلة من الشغور جرّت معها كثيراً من الأزمات، وقد جاء انتهاء الأزمة بتنازل كبير من فريق 14 آذار الذي ذهب أبرز أقطابه سعد الحريري منذ قرابة عام إلى التراجع عن دعم حليفه سمير جعجع، ودعم خصمه السياسي، سليمان فرنجية، ما دفع جعجع إلى التنازل عن ترشّحه، واتخاذ قرار بدعم منافسه وخصمه السياسي اللدود، ميشال عون، وكلا المرشحَين اللذين حظيا بدعم الحريري وجعجع هما من فريق 8 آذار الموالي للنظام السوري، وحليف لحزب الله، وبالتالي بات بحكم المؤكد منذ قرابة العام أن الشخصية التي ستملأ الفراغ في سدة الرئاسة الأولى في لبنان هي شخصية من هذا الفريق، وبات مؤكداً أيضاً أن «حزب الله» الذي يتولى إدارة هذا الفريق بالنظر إلى الضعف الذي يعتري النظام السوري، لن يقبل بأية شخصية لملء الفراع سوى أحدهما، وقد انحاز في حينه إلى ميشال عون، علماً أن فرنجية يكاد يكون الشخصية الأقرب للحزب وللنظام السوري، وهكذا تمكّن هذا الفريق من فرض مرشحه في نهاية المطاف على رئاسة الجمهورية عندما وجد الفريق الآخر أن إنهاء حالة الفراغ لن يكون إلا عبر انتخاب عون رئيساً، وهو ما حصل بالفعل بعد أن أقدم الحريري على سحب تأييد فرنجية، والانضمام إلى جعجع بتأييد ترشيح عون. والمفارقة هنا أن كلّاً من جعجع والحريري هما من أبرز خصوم «حزب الله» في لبنان، وقد خضعا لـ«ابتزازه» تحت عنوان إنهاء حالة الفراغ باعتبار أن مرشح الحزب الأساسي والحقيقي والفعلي في لبنان لرئاسة الجمهورية هو الفراغ بحسب وجهة نظرهما، إلا أن الحزب دحض هذه الفرضية، واقترع بشكل واضح وصريح لا لبس فيه للجنرال عون في جلسة الانتخاب.
الآن بعد انهاء مرحلة الفراغ الرئاسي، هناك مرحلة جديدة هي مرحلة تكليف الحكومة وتأليفها، فهل يدخل لبنان مرحلة الفراغ الحكومي في ضوء المواقف السياسية المتضاربة والمتعارضة والموزّعة بين الأطراف السياسية؟ أم يمكن أن يكون التكليف سهلاً والتأليف صعباً؟ من الواضح أن انتخاب الرئيس جاء نتيجة تسويات ثنائية لم تشمل كل الأطراف أولاً، ولم تكن منسّقة بين الذين شملتهم ثانياً. وإذا أدركنا أن التكليف، أي تكليف شخصية تشكيل الحكومة، يكون عبر الاستشارات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية (وقد دعا الرئيس النواب إلى استشارات ملزمة يومي الاربعاء والخميس)، وبناء عليها يكلف شخصية تشكيل الحكومة، يبرز أن كتلاً نيابية تتجه إلى تسمية رئيس «تيار المستقبل»، سعد الحريري، لتشكيل الحكومة، وهي كتل يمكن أن تعطي الحريري القدر الكافي من الأصوات لحصوله على التكليف. إلا أن كتلاً أخرى تشترط شروطاً محددة لتسمية الحريري لرئاسة الحكومة، وهي ستدخل معه في مساومة حول ما يمكن أن يقدمه لها من أجل تسميته، وهنا تبرز «كتلة التنمية والتحرير» برئاسة الرئيس نبيه برّي، وكتلة نواب حزب الله، وكتل أصغر أخرى. وعليه فإن مسألة التكليف قد لا يكون فيها الكثير من التعقيد، إلا أن المسألة الأكثر تعقيداً تكمن في التأليف، أي في تشكيل الحكومة، باعتبار أن هناك توازنات سياسية، وميثاقية، ودستورية لا بدّ من توافرها من أجل إتمام تشكيل الحكومة، وهنا تكمن التفاصيل، وفيها يكمن الشيطان والشياطين.
القوى التي عطّلت انتخاب رئيس للجمهورية على مدى عامين ونصف تقريباً، وفرضت مرشحاً وحيداً على الرئاسة بغض النظر عن شخصية الرئيس الحالي، قادرة على تعطيل تشكيل الحكومة بألف طريقة وطريقة، وهنا يمكن أن نتذكر عام 2011 وكيف جعلت «القمصان السود» رئيس الجمهورية السابق، ميشال سليمان، يؤجّل الاستشارات النيابية الملزمة أسبوعاً كاملاً فقط، وبعدها جاءت النتيجة مغايرة تماماً لما كان يمكن أن تأتي به الأسبوع الأول، وبعد ذلك احتاج الأمر إلى بضعة أشهر حتى تمكّن الرئيس المكلف في حينه (نجيب ميقاتي) من تشكيل الحكومة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حكومة «المصلحة الوطنية» برئاسة الرئيس تمام سلام التي قدمت استقالتها قبل أيام، فإن رئيسها احتاج إلى عشرة أشهر حتى تمكّن من تشكيلها على الرغم من أنها جاءت بشبه توافق بين مختلف القوى السياسية. 
اليوم يحتاج الرئيس المكلف إلى تفاهمات وتوافق مع باقي الكتل النيابية، ومع القوى السياسية من أجل تسهيل تشكيل الحكومة، وهنا يكمن بيت القصيد حيث لكل من هذه القوى والكتل مطالبها، بعضها في البيان الوزاري، كما في حالة «حزب الله» الذي يسعى إلى شرعنة سلاحه من خلال البيان الوزاري كما في كل الحكومات السابقة، فضلاً عن تغطية وجوده في سوريا مقاتلاً إلى جانب النظام السوري، وهذا بند إضافي كفيل بنسف كل مساعي تشكيل الحكومة، ويمنع تشكيلها، أو على الأقل يؤخر تشكيلها، ليبقى الرئيس المكلف في إطار التكليف والبحث فقط، وهي مرحلة تشبه إلى حد كبير حالة الفراغ في سدة الرئاسة الأولى، إذ إن حكومة تصريف الأعمال لن يكون بمقدورها الاجتماع واتخاذ القرارات، وهذا بحد ذاته سيكون كفيلاً بجعل الرئيس المكلف يقدم على خطوة من اثنتين: فإما أن يعتذر عن عدم تشكيل الحكومة بعد استنفاد الوقت، وبالمناسبة ليس هناك نص دستوري يحدد مهلة لتشكيل الحكومة، وهو ما يجعل الوقت مفتوحاً وتالياً تمدّد حالة الفراغ، وإما أن يقدّم التنازلات المطلوبة، أو بالأحرى المفروضة عليه، وهو ما يمكن ان يحصل فعلاً تحت عنوان «التضحية» من أجل مصلحة لبنان. 
وإذا التفتنا إلى الكتل الأخرى التي تريد حصصاً وازنة في الحكومة من أجل تأمين الغطاء السياسي لها، فإننا سندرك أكثر أن عملية التأليف ليست سهلة، ولا نزهة، بل عملية ستكون معقدة قد يدفع فيها الرئيس المكلف بقية ما لديه من رصيد سياسي وشعبي، وهنا يمكن التأكد من صحة تصريح مستشار خامنئي علي أكبر ولايتي عن النصر الذي تحقّق لحلفاء إيران في لبنان.