وائل نجم

 فاجأ الرئيس سعد الحريري كل الوسط السياسي اللبناني، الأصدقاء منهم والحلفاء أو الخصوم، باستقالته التي أعلنها من الرياض عبر شاشة قناة العربية. لم تكن الأجواء الداخلية، ولا التصريحات والمواقف التي أدلى بها الحريري على مدى أيام سبقت الاستقالة توحي بأن الرجل قد يقدم على خطوة من هذا القبيل. على العكس من ذلك تماماً، كانت الأجواء تؤكد أنه ماض في خياره الذي اختار على أساسه التسوية التي اعترف لاحقاً وضمناً في كتاب استقالته بأنها كانت مجحفة ولم تؤدِ الغرض الذي كان يتوخّاه الحريري منها، أو على الأقل كان يعلنه.
وبغض النظر عن الأسباب التي استدعت هذه الاستقالة، وهي بالمناسبة داخلية لها علاقة بعدم التزام الطرف الآخر كل مندرجات التسوية. وخارجية تحدث عنها الكثير وقال إنها ضغط سعودي، وربما أمريكي على الحريري، وعلى لبنان معه في إطار المواجهة المعلنة مع «حزب الله» ومع إيران. إذاً بغض النظر عن هذه الأسباب نحن اليوم أمام أزمة سياسية من العيار الثقيل، إذ إن هذه الخطوة (الاستقالة) تشبه إلى حد بعيد لعبة الانتحار. بمعنى آخر، إذا لم يكن خلف هذه الخطوة خطوات، سواء عند الحريري إذا كانت الاستقالة نابعة من قناعة منه ولأسباب داخلية جرى الحديث عنها، أو عند الطرف الخارجي الذي ضغط على الحريري لتقديم هذه الاستقالة، فإن المكوّن السنّي في البلد سيدفع ثمناً كبيراً، وستزداد حالة الإحباط التي تعاني منها الساحة الإسلامية. أما إذا تلت هذه الخطوة خطوات أخرى، وأنا أشك في أن يكون في جعبة الرئيس الحريري أية خطوات إضافية يمكن أن ترغم طرفي التسوية الآخرين، الرئيس ميشال عون و«حزب الله» على تقديم تنازلات لإنجاز تسوية سياسية جديدة تكون أكثر إنصافاً أو يمكن أن تتضمن التزامات وضمانات أخرى لحفظ التوازنات داخل الدولة والنظام. أو عند الطرف الذي ضغط على الحريري للإستقالة، وهذا الطرف يملك بالطبع إمكانية اتخاذ خطوات أخرى، فإن الساحة الإسلامية مدعوة للتعامل بحذر مع هذه الخطوات من أجل أن لا تتحوّل إلى ساحة تدفع الثمن في لعبة تصفية الحسابات الإقليمية، وهناك أمثلة شاهدة على هذا الموضوع.
المسؤولية الأساسية تقع اليوم في الساحة الإسلامية على عاتق دار الفتوى أمام هذه الأزمة وهذا التحدّي. المسؤولية الأولى من أجل أن لا يتحوّل لبنان إلى ساحة تصفية حسابات بناء على رهانات لا تعلم هذه الساحة مدى صدقية التزاماتها، وقد جرّبت سابقاً واكتشفت حجم التخلّي الذي أصاب مرجعياتها في ظل ظروف صعبة ومعقدة، وكيف اضطرت إلى تقديم تنازلات. وكذلك فإن الأمثلة شاهدة أمامها كيف جرى التخلّي عن شعوب في المنطقة دفع شبابها أثماناً كبيرة ولم يجنوا سوى السراب حتى الآن، وبالتالي هذا يحتّم مسؤولية الحفاظ على هؤلاء الشباب من الاستغلال والدفع بهم إلى منزلقات خطيرة ومن ثم بعد ذلك التخلّي عنهم. وأما المسؤولية الثانية فهي حتى لا تُدفع إلى مزيد من التنازلات، بل تَدفع ثمن أية تسوية جديدة مقبلة أو «تغوّل» على صلاحياتها ودورها من قبل أطراف ومشاريع لا تخفي ولم تخفِ سابقاً نياتها ولا تطلعاتها. إن غياب أية خطوة تالية للاستقالة سيجعل الساحة الإسلامية تدقع ثمناً جديداً، وهذا يحتّم على دار الفتوى القيام بما يلزم لحفظ صلاحيات المكوّن، واستعادة دوره الوطني البنّاء.
إن الاستشارات التي جرت في دار الفتوى مع العديد من القيادات الوطنية أمر مهم ويمكن أن يسهم في تحصين الساحة الوطنية وحفظ الدور الوطني للمسلمين السنّة. ولكن ذلك بحسب تقديري ورأي المتواضع غير كاف أبداً على الإطلاق. بل أكاد أقول إن الأهم من تلك الاستشارات كان وما زال الدعوة إلى لقاء إسلامي واسع لا يقتصر على شخصيات أو جهات سياسية محددة، ومن ثم التشاور في تداعيات هذه الأزمة وصولاً إلى اتخاذ موقف موحد منها، وأظن أن دار الفتوى لم تكن موفقة خلال الساعات الأولى للاستشارات في إدارة هذه الأزمة، إذ تجاهلت عن قصد أو عن غير قصد مكوّنات أساسية وفاعلة في الساحة الإسلامية السنّية، وهذا لا ينفع في مواجهة هذا التحدّي، واتجهت إلى الاستماع إلى آراء -لا نقول إنها غير مهمة- ولكنها غير معنيّة بشكل كامل وأساسي بما تواجهه الساحة الإسلامية. وأقول إن الظرف ما زال متاحاً أمام دار الفتوى، وحتى القوى السياسية الإسلامية الأخرى للقاء والتشاور واتخاذ الموقف الموحد من هذه الأزمة، وإلا فإنهم سيكونون شركاء في إضاعة صلاحيات ودور هذا المكوّن على المستوى الوطني، أو عن تورّط شبابه في مواجهات قد تكون عبثية في ظل انعدام الرؤية للمستقبل.}