وائل نجم

 الفضيحة التي تكشّفت في ملف قضية العسكريين الشهداء جرّاء الصفقة التي قضت بترحيل قتلة العسكريين وإجلائهم عن الأراضي اللبنانية استدعت فتح تحقيق جدّي ومسؤول لتحديد المسؤوليات ومحاسبة المقصّرين أو المسببين أو ربما المتآمرين، خاصة أن الخاتمة لمأساة العسكريين كانت مؤلمة وصعبة على ذويهم وعلى كل الوطن.
الكل يعلم أن العسكريين الشهداء خطفوا في عام 2014 من مراكزهم في محيط بلدة عرسال البقاعية الحدودية في ظروف خاصة كانت تعيشها المنطقة في حينه، وقد تمكّن وقتها تنظيم الدولة «داعش»، وتنظيم النصرة من خطف عدد من العسكريين في ظروف طبيعية لم يكن فيها اية معركة بين الدولة وتلك التنظيمات. وقتها قاد البعض مفاوضات مباشرة وغير مباشرة من أجل إطلاق العسكريين، وقد تمكّنت في حينه «هيئة علماء المسلمين» بما لديها من دالة جراء المساعدات الانسانية التي تقدمها لمخيمات اللاجئين من إقناع الخاطفين، ولا سيما في جبهة النصرة، من إطلاق سراح بعض العسكريين من دون أي مقابل. وربما كانت ستنجح في إطلاق معظم العسكريين لولا تعرض موكب علمائها في حينه لإطلاق نار أدّى إلى جرح رئيسها في وقته، الشيخ سالم الرافعي.
كذلك كانت هناك مبادرات لجهات أخرى أدّت من خلال المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة إلى النجاح في إطلاق بعض العسكريين أيضاً.
إلا أنه في تلك المرحلة كان هناك من يضغط من الناحية المقابلة للدفع باتجاه إقحام الجيش اللبناني بمعركة مفتوحة مع التنظيمات المسلّحة لإطلاق سراح العسكريين، وكان الجميع يدرك في حينه أن مثل هذا القرار ليس سهلاً، بل كان يمكن أن يدخل البلد في فتنة كبيرة، لأن هدف أولئك غير المعلن في حينه كان تهجير أهالي بلدة عرسال واللاجئين السوريين إلى جوارها، وظل هذا الهاجس قائماً، بل هو ربما قائم حتى الساعة على الرغم من انتشار الجيش في الجرود وتأمين البلدة ومحيطها.
لم يكن أمام القيادة السياسية والعسكرية في حينه سوى احتواء الموقف والبحث عن مخارج أخرى تضمن حياة العسكريين من ناحية، وتضمن إطلاق سراحهم بأقل الأكلاف، ولذلك فضّلت الحكومة اللبنانية وقيادة الجيش مقاربة الملف من هذه الزاوية، وليس من زاوية حسابات بعض الأطراف السياسية التي كانت تريد الاستغلال وإقحام الجيش في معركة تجعله في موقع هو غير مضطر له، بل يختلف كلياً عن الموقف الوطني الذي قرّر النأي بلبنان عن أوضاع المنطقة، ولا سيما، الوضع في سورية.
اليوم، بعد هذه الصفقة الفضيحة التي كشفت أن الدولة كانت على علم باستشهاد العسكريين منذ عام 2015، والتي كشفت أيضاً كيف تمّ ترحيل مسلّحي «داعش» من الجرود، على الرغم من أن الجيش ضيّق الخناق عليهم بشكل كبير في معركة «فجر الجرود» بحيث لم يعد لهم سوى الاستسلام أو الفرار باتجاه الداخل السوري، اندفع البعض يطالب بفتح تحقيق لمحاسبة من يعتبرهم قد قصّروا في تحرير العسكريين الذين كانوا مخطوفين في حينه، متجاهلاً كل الظروف التي كانت قائمة، والنتائج التي كان يمكن أن تتمخّض عنها أية معركة عسكرية تحت عنوان تحريرهم!
لقد شُنّت حملة قوية على رئيس الحكومة السابق، تمام سلام، وعلى قائد الجيش السابق، العماد جان قهوجي، باعتبار أنهما مسؤولان عما آلت إليه مأساة خطف العسكريين. ولقد تعهّد رئيس الجمهورية، ميشال عون، بفتح تحقيق لجلاء الملابسات، وتحديد المسؤوليات، واتخاذ ما يلزم بحق كل من تظهر مسؤوليته مقصّراً أو متساهلاً أو متآمراً في تلك المرحلة على العسكريين. ولقد طلب وزير العدل، سليم جريصاتي، من النائب العام، سمير حمود، القيام بما يلزم في هذا الموضوع، وهذا بالطبع من المسؤولية، ومن حق ذوي العسكريين أولاً، ومن حق الرأي العام اللبناني ثانياً لمعرفة الحقيقة وجلاء الملابسات ومحاسبة المتورطين. ولكن هذا الملف المأساة لا يمكن أن ينحصر التحقيق فيه بمرحلة زمنية معيّنة فقط. لتحميل طرف معين، أو مسؤول معيّن، مسؤولية بهذا الحجم. إذا انحسر الأمر بهذه المرحلة فقط فعندها لن يكون التحقيق من أجل كشف ملابسات أو محاسبة مقصّرين أو متآمرين أو ما سوى، عندها سيكون التحقيق عبارة عن كيد سياسي وانتقام من مرحلة سياسية لأنها خالفت ما كان البعض يطمح إليه من أهداف، وهذا بالطبع سيفقد العهد مصداقيته، وسيؤسس لمرحلة جديدة سيكون فيها لبنان أمام تخندق جديد يزيد من مآسي اللبنانيين ولا يسهم في تخفيف معاناتهم. أما إذا شمل التحقيق المراحل كافة من لحظة خطف العسكريين إلى لحظة إجلاء قتلتهم عن جرود بلدتي راس بعلبك والقاع، ومحاسبة كل متورط بدمهم، وكل متآمر عليهم وعلى الوطن، فعندها سيشعر المواطن بأنه محترم ومصون الحقوق في دولة أساسها القانون والمؤسسات، وعندها سيكون الجميع في تصرّف العهد وفي خدمته لتقوية هذه الدولة.}