العدد 1334 / 24-10-2018

بقلم : أسامة أبو ارشيد

ثَمَّةَ حكمة سائدة مفادها أن الإنسان لا ينبغي أن يتكلم أو يتصرّف، ولا حتى أن يكتب، سواء كان صحافياً أو كاتباً، وهو غضبان، ذلك أنه قد يقدم على قولٍ أو فعلٍ يندم عليه لاحقاً عندما يذهب عنه الغضب. يشهد لذلك، قول الرسول الكريم، محمد عليه الصلاة والسلام: "لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" (صحيح البخاري)، إلا أن الحِكَمَ السائدة، والحديث هنا عن الصحيحة منها، لا تكون بالضرورة، مطلقةً وغير مقيدة بمعطيات الزمان والمكان والحال والموقف. يشهد لذلك، أيضاً، موقف موسى عليه الصلاة والسلام، عندما اتخذ قومه خلال مِيقاتِهِ مع ربه، "مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ"، مستضعفين خليفته الذي تركه فيهم، حتى يعود، هارون أخوه. و﴿"لَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖأَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ"﴾. ويختم النص القرآني هذا المشهد، بذهاب الغضب عن موسى، دون لَوْمِهِ على إلقائه ألواحاً كُتِبَ فيها الوحي، ولا على معاقبته أخاه، ذلك أن جَسامَةِ الموقف، سوغت ردة الفعل القوية، وربما تطلبتها. ﴿"وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ"﴾ الأعراف: 148-154.

ما يُراد الانتهاء إليه مما سبق أن الغضب العارم، وإن كان في أصله، خطأ، إلا أنه قد يكون، أحياناً، في مكانه وضروريا، ذلك أنه قد يعكس حقيقة ما يختلج في النفس، ويكشف حقيقة القناعات. الأهم أنه قد يجرّد المرء من حسابات الذات الضيقة، وينطلق به إلى فضاء المصالح العامة والكبرى، مجاهراً بالحقِ، ومتحرّراً من الخوف، ليدخل في باب: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله" (المستدرك على الصحيحين – الحاكم).

لماذا هذه المقدمة؟ بكل بساطة ووضوح، إنها مرتبطة بجريمة اغتيال الصحافي السعودي،

جمال خاشقجي، في إسطنبول، قبل أكثر من أسبوعين، على يد نظام الدولة التي يتحدر منها، وفي قنصلية بلاده نفسها. يصل متابع الجريمة وتطوراتها، سواء عبر محاولة نظام وليِّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، غسل يديه منها، أم محاولات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التغطية عليه، وإنقاذه من ورطته، يصل إلى حالة من الغضب والاشمئزاز الكبيرين. ألهذا الحد هُنَّا كمواطنين عرب؟ ألهذا الحد أضحى الإنسان العربيُّ رخيصاً في بلاده وخارجها؟ إنَّنا هُنَّا على أنفسنا، فَهُنَّا في العالمين.

عندما سئل ترامب، في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض، عن مصير خاشقجي، الغامض حينها، كانت إجابته تعبيراً مريراً ومذلّاً عن حالة الهَوانِ التي يعيشها الإنسان العربي، والنظرة الدونية التي يتعامل بها الآخرون معه. إننا لا نسوى شيئاً في أعين أنظمةٍ متسلطةٍ على رقابنا وأرزاقنا وبلادنا. كما أننا لا نسواي شيئاً في أعين بعض أصحاب القرار في الغرب والشرق، كما عند ترامب، أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مثلاً، وهو يسفك دماء السوريين، بدعوة من نظام الحكم المتسلط في سورية نفسها. "لقد وقع الحادث في تركيا، وما نعرفه أن خاشقجي ليس أميركياً، أليس ذلك صحيحاً؟ هو مقيم دائم"! هكذا حاول ترامب أن يبرّر تقاعسه عن الدفع باتجاه محاسبة حقيقية ووافية لنظام ابن سلمان. ولم يتوقف ترامب عند نزع إنسانية خاشقجي، بناء على جنسيته الأصلية ومكان تصفيته، بل إنه وضع سعراً على حياته، حيث أشار إلى الـ110 مليارات دولار التي ستصرفها السعودية على شراء أسلحة أميركية. "لا نحب ما جرى. ولكن أن نوقف صرف 110 مليارات دولار في هذه البلاد (أميركا)، ونحن نعلم أن لديهم (السعودية)، أربعة بدائل أو خمسة، منها اثنان جيدان جداً، فإن هذا لن يكون مقبولاً ".

طبعاً، الأسلحة التي تشتريها السعودية من الولايات المتحدة وغيرها، والأسلحة الأميركية التي تريد أن تصرف الآن عليها 110 مليارات دولار أخرى، لم يُستخدم، ولن يُستخدم منها شيء، في حماية أمن المملكة وتعزيزه، بل هي لإنزال مزيدٍ من القتل والدمار باليمن المنكوب وكما دول عربية كثيرة، تشتري السلاح الأميركي وغيره، وتقتنيه، لتقتل به شعوباً مسالمة. في حالة إسرائيل، فإنها على الأقل، تشتري السلاح وتقتنيه لردع أعدائها وتعزيز جبروتها على غير أبناء شعبها، من دون أن يُبرّر بذلك إجرامها. أما السعودية، ودول عربية أخرى، وعلى الرغم من صفقات الأسلحة الضخمة بمئات مليارات الدولارات، فإنها ما زالت تعتمد في أمنها كلياً على المظلة العسكرية الأميركية (!).

ثالثة الأثافي، أن هَوانَ العربي في العالم ليس مقصوراً على المواطن المقموع. كلا، حتى

أنظمتنا المتسلطة نفسها تعيش الذُلّ والهَوان نفسيهما. خذ مثلاً الإشارة المتكرّرة من ترامب إلى حقيقة أن خاشقجي كان "مواطناً سعودياً". إنه يذكر أنه مواطنٌ سعودي من ناحية، ويهدّد بـ"عقوبات قاسية"، من ناحية أخرى، بحق من يثبت له دور في ارتكاب الجريمة، ثمَّ يطلب مزيداً من المال السعودي من ناحيةٍ ثالثة، مقابل تغاضيه عن الجريمة. إنها متوالية نتيجتها النهائية أن العربيّ، مواطناً مستباح الحمى، أم نظاماً مستبيحاً لحقوق شعبه، أم دولة فاشلة، حتى ولو كانت ثرية..، لا قيمةَ له ولا احترام، وإنما المعيار هنا الثمن الذي يقدر أن يدفعه مقابل إنقاذ رقبته من المقصلة، مع بقائه تَبَعاً وعبداً، وَحَصالَةَ أموال تتناوشها أيدي اللصوص.

أما آنَ لنا في لحظة غضب أن نتحرّر، ولو مرة واحدة، من تَصَنُّعِ "الموضوعية"، وبعيداً عن حسابات الربح والخسارة الذاتية؟ أما آنَ لنا أن نصرخ بأعلى صوت: إنَّا كفرنا بالنظام الرسميِّ العربي؟ إنَّا كفرنا بأنظمة متخلفة؟ إنَّا كفرنا بدعاوى الإفك المحذّرة من تضييع أمن أوطاننا وإضعافها أمام الذئاب المتربّصة بها؟ إنَّا كفرنا باعتذاريي الاستبداد، سواء باسم الدين أم الوطنية؟ يُرَوِضونَنا بذريعة حُبِّ الأوطان وسلامتها، ونحن لم يبق لنا أوطان، إذ حوّلها المستبدون إلى سجون ومسالخ بشرية. لقد انتهينا، نحن العرب، حكاماً ومحكومين، إلى أن نكون بلا قيمة ولا وزن. ومن ثمَّ فلا تلوموا الإنسان العربيَّ المسحوق إن سعى إلى نقض أركان النظامين الظالِمَيْنِ، العربيِّ والعالميِّ، فبقاء الحال من المُحالِ.