العدد 1358 / 17-4-2019

بقلم : منى عبد الفتاح

لم يكن الموقف الدولي موحّداً ضد التصعيد العسكري في ليبيا، بل ظل غامضاً يدعو القوات المعتدية والمدافعة على حدٍّ سواء إلى التهدئة وضبط النفس، فقد أجهضت روسيا صدور بيان عن مجلس الأمن الدولي يدعو قوات حفتر إلى وقف عملياتها في طرابلس، على أثر رفض الولايات المتحدة مقترح التعديل الروسي. وكان الوفد الروسي في الأمم المتحدة قد طالب بتعديل صيغة البيان الرئاسي، بحيث تصبح دعوة كل الأطراف الليبية المسلحة إلى وقف القتال، وليس فقط قوات حفتر. وقبلها لم يكتفِ حفتر بالرفض القاطع للمقترح الذي قدّمه له الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، حول لقاء يجمعه مع رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج في جنيف، في محاولة لاحتواء الأزمة والتطورات المستجدة، وإنّما أعلن استمراره في عملياته العسكرية، فلم يكن غوتيريس الوحيد الذي فشل في إقناعه بتهدئة الأوضاع، يغادر ليبيا و"قلبه مثقل"، فالأزمة الليبية أثقلت قلوب ستة من المبعوثين الأمميين.

يخشى المجتمع الدولي إجراء صفقةٍ لتقاسم السلطة بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج والجنرال المنشق خليفة حفتر، أكثر من خشيته الوصول إلى نظام ديمقراطي عبر انتخابات حرّة ونزيهة. لذا كان أول تصريح من مجموعة الدول السبع في بيانها أخيرا إبّان الأزمة أنّ منشآت النفط في ليبيا وإنتاجها وإيراداتها مملوكة للشعب الليبي، وينبغي عدم استغلالها من أي طرف لتحقيق مكاسب سياسية. ويُعتبر ضمان تدفق النفط العامل الذي يربط بين هذه الدول وسباقها في أن يكون لكلٍّ منها دور في الشأن الليبي، بالإضافة إلى محاربة التنظيمات الإرهابية. ولكن عند الدخول في التفاصيل، نجد أنّ لكل دولة أجندتها التي تخدم هذين العاملين، فالولايات المتحدة غضّت الطرف طويلاً عن جرائم حفتر، على الرغم من تحذيرات المنظمات الإنسانية، فعملت على تقويته ودعمه لاستلام الحكم، كي يساهم في تطمين حلفائها في المنطقة بألّا تنتقل إليهم عدوى الديمقراطية ونسائم الربيع العربي. أما إيطاليا فلا زالت تشعر بمسؤوليتها عن مستعمرتها السابقة، وما يمكن أن يجرّه الإرث التاريخي والواقع الجغرافي من زيادة مخاطر تدفق اللاجئين إليها، وهي بحكم متاخمتها ليبيا عبر المتوسط، تُعتبر الدولة الأكثر تأثراً بما يمكن أن تفضي إليه حالة الانفلات والفوضى، بوابة للمهاجرين القادمين من ليبيا وعبرها في طريقهم إلى أوروبا. ووفقاً لهذه العوامل، سعت إيطاليا إلى تهدئة الأوضاع، حتى لا يتأثر تدفق النفط والغاز الليبي الذي تعتمد عليه بشكل كبير.

وتقتسم فرنسا الإرث التاريخي الاستعماري مع إيطاليا، وهي تنظر إلى عدم الاستقرار في جنوب ليبيا، التي كانت تقع ضمن مستعمراتها في شمال أفريقيا، مهدّدا لاستثماراتها في منطقة الصحراء الكبرى. ولن تتردّد فرنسا التدخل في الجنوب الليبي، فقد قادت من قبل حملة عسكرية عام 2013 ضد الجماعات المسلحة في شمال مالي، لحماية شركاتها المستكشفة والمنقّبة عن النفط والذهب واليورانيوم هناك.

لم تكن كل هذه الحسابات غائبةً عن الأطراف المتصارعة في ليبيا. ونتيجة ذلك، استقوى كل

منها بجهاتٍ دولية ضد الآخر، وعلى حساب الشعب الليبي. وقد قام حفتر، منذ المجيء به لقيادة جيش المعارضة لخبرته العسكرية، بتكوين جيشٍ قوامُه آلاف العسكريين، تدربوا على أسلوب حرب العصابات. وكان الدافع في عودته إلى ليبيا والمشاركة في الحرب ضد القذافي رغبته في الانتقام من الأخير، بسبب رفضه مساعدته في الحرب التشادية، ما أدى إلى أسره، هو وآخرين، ثم إقامته في أميركا عقدين. ونتيجة ذلك، تشكّلت عقيدة حفتر العسكرية على أن لا حل غير الخيار العسكري، ولذلك عندما بدأ الحلّ السياسي يتراءى من بعيد، ونودي إلى المؤتمر الوطني، نفض يده من الحوار، ونقض الاتفاقيات العديدة الموقعة في العواصم الغربية والعربية. كان من المؤمّل أن يحمل هذا المؤتمر نتائج عديدة. ولكن أيّاً تكن، فهي لن تلبي طموحات حفتر في الحصول على السلطة الكاملة التي لن تتحقّق له إلّا بإعلان الحرب وعسكرة الدولة. فبالإضافة إلى هدفه في إفشال الملتقى الوطني الجامع، والذي دعت إليه بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، برئاسة غسان سلامة، والمقرّر عقده في 14 نيسان الحالي في غدامس (جنوب) ليبيا، يسعى حفتر إلى إرباك المشهد السياسي، والضغط على صناع الرأي العام، الليبي والدولي، لإقناعهم بأنّ ليبيا لن ينجح معها مسار الانتقال الديمقراطي والمشروع المدني، بل نظام عسكري ليدحر المجموعات الإرهابية. ولمواجهة هذه السياسة، يتظاهر المجتمع الدولي بالقلق على مدنية الدولة، ولكنه من وراء الكواليس يدعم حفتر لفرض نموذج عسكري. وهذا الطموح إذا ما نجح حفتر في تحقيقه، سيؤدي إلى استعار النزاع المسلح بأعنف مما هو عليه الآن، فضلاً عن الانسداد السياسي الذي سيلازم ليبيا زمانا قد يطول.

تصوّر التجاذبات السياسية والعسكرية في ليبيا الآن المشهد مشدوداً من الأطراف جميعها، ولكن العبرة فيمن ينجح في سحب مواقف كثيرة مؤيدة لصالحه. وهذه يمكن أن يُبنى عليها مستقبل الصراع في ليبيا ومآلاته التي سوف تزيد من عملية الاستقطاب، وسوف تدفع آبار نفط ليبيا فاتورة تجّار الحرب، ممن يناصرون أحد الطرفين، في سبيل تأمين الحكم في حالة السراج أو نزعه كما في حالة حفتر. وهذه المعارك على الأرض، بعدّتها وعتادها وإعلامها، هي بداية لحربٍ مؤجلة، ربما تنفجر في أي وقت بشكلها الدولي، والإقليمي المتابع بترقّب لإرهاصات الربيع، السوداني والجزائري، مطوّقاً المشهد الليبي.