الشيخ محمد حمود

كثيراً ما كنت أتساءل عندما أسمع عن خنساء فلسطين الشهيرة بـ«أم أحمد»، من هي الخنساء ولمن يعود هذا اللقب، وما قصته. واليوم وقد كثرت خنساوات عصرنا من الخنساء السورية الى الخنساء المصرية الى الخنساء الأفغانية الى الخنساء العراقية الى الى.. دائماً يسألني طلابي في المدرسة من هي الخنساء وما قصتها، وأعتقد أن الكثير لا يعرفون عن الخنساء الا اسمها.
هي تماضر بنت عمرو، وقد لُقبت بالخنساء، وهي صفة تعني انخفاض قصبة الأنف، وكان رسول الله | يدعوها خُناس. زوجها رواحة السلمي، ولدت له أربعة أشبال كانوا خيار قومهم في الجاهلية، ولما اعتنقوا الاسلام أصبحوا مفخرة العرب والمسلمين.
كانت الخنساء تملك من المروءة والشهامة والبطولة والشجاعة والفصاحة والوفاء والاخلاص، والجمال الساحر، والذكاء النادر، ما جعلها محط أنظار كبراء قومها. ولما سئل جرير الشاعر من أشعر الناس؟ قال: أنا، لولا الخنساء. قيل له بم فضّلتها؟ قال بقولها:
إن الزمان وما يغني له عجبٌأَبقى لَنا ذَنَباً وَاستُؤصِلَ الراسُ
أَبقى لَنا كُلَّ مَجهولٍ وَفَجَّعَنابِالحالِمينَ فَهُم هامٌ وَأَرماسُ
إِنَّ الجَديدَينِ في طولِ اِختِلافِهِمالا يَفسُدانِ وَلَكِن يَفسُدُ الناسُ
وقول جرير هذا يدل على طول باعها ورسوخ قدمها في ميدان الشعر، حيث لا يعرف القرش الزائف من الصحيح إلا الصرّافون.
وشهد لها الرسول | بذلك حين خرجت مع بنيها في وفد بني سُليم للقاء الرسول وإعلان إسلامهم، قال عدّي بن حاتم: يا رسول الله إن فينا أشعر الناس وأسخى الناس وأفرس الناس. قال سمّهم، قال: أما أشعر الناس امرؤ القيس بن حجر، وأما أسخى الناس فحاتم بن سعد يعني أباه، وأما أفرس الناس فعمرو بن معد يكرب. فقال رسول الله | ليس كما قلت ياعديّ، أما أشعر الناس فالخنساء بنت عمرو،  وأما أفرس الناس فعلي بن أبي طالب. وتلك أغلى شهادة حصلت عليها الخنساء من سيد البشر.
وحين جاءت القادسية، وجاء الامتحان، وسمعت الخنساء وبنوها الأربعة نداء الداعي للخروج، بادر أشبالها الأربعة كلٌ منهم الى لأْمته فارتداها، ووقفت اللبؤة العجوز تشيّعهم، وتملأ عيونها منهم، فلعل تلك اللحظة آخر عهدها بهم، ثم خطبت فيهم خطبة كانت أروع شحنة حماسة يمكن أن تقدّمها أم مؤمنة في نفوس بنيها المؤمنين وهم ينطلقون الى لقاء عدوّ جاحد غشوم، ليس المجال ذكرها (الخطبة) فهي مسطورة في بطون الكتب ومشهورة لمن أراد الرجوع اليها، خلاصتها: إياكم أن يراكم الله مقصّرين في سبيله.
ثم تهيّأ الفتية للقتال وأعطوا أمهم مواثيقهم على انتزاع النصر أو الفوز بثانية الحسنيين. وانصرفوا عنها، وبدأ القتال، وبرز أول الأشبال وأخذ يرتجز ويقول: 
يا إخوتي إن العجوز الناصحةقد نَصَحَتْنا إذ دَعَتْنا البارحه
مقالة ذات بيان واضحهفباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تَلْقَوْن عند الصائحهمن آل ساسان الكلابَ النابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحةوأنتم بين حياة صالحه 
أو ميتة تورث غُنما رابحه
حتى قُتل. ثم تقدّم الثاني وأخذ يرتجز ويقول:
إن العجوز ذات حَزْم وجَلَدوالنظرِ الأوفقِ والرأيِ السَّدَد 
قد أمرتنا بالسِّدَاد والرِّشَدنصيحة منها وبرّاً بالولد
فباكروا الحرب حماة في العددإما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبدفي جنة الفردوس والعيش الرغَد 
حتى قُتل. ثم تقدّم الثالث وأخذ يرتجز ويقول:
والله لا نعصي العجوز حرفاقد أمرتنا حَدَبًا وعطفا
نصحًا وبرًّا صادقًا ولطفافبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تَلُفُّوا آل كسرى لَفّاأو تكشفوهم عن حِماكم كشفا
إنا نرى التقصير منكم ضعفاوالقتل فيكم نجدة وزُلفا
حتى قُتل. ثم تقدّم الرابع وأخذ يرتجز ويقول:
لســــت لخــــنـــســــاءٍ ولا للأخــــرمولا لعمرٍو ذي السناء الأقدم
إن لم أَرِدْ في الجيش جيشِ الأعجمماضٍ على الهول خِضم خضرم
إمـــــا لفــــوز عاجــــل ومــــغنــــــــمأو لوفاة في السبيل الأكرم 
وعاد أبطال القادسية منتصرين ولم يعد أشبال الخنساء، فقالت: الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم جميعاً، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
أولئك آبائي فجئني بمثلهمإذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ