العدد 1350 / 20-2-2019

الثورات العربية التي شهدتها عدة أقطار عربية مطلع هذا العقد هي منعطفٌ تاريخيٌّ وكبيرٌ في حياة المنطقة وشعوبها بكل معنى الكلمة. ويستحق هذا الحدث أن يمتلك كتابته المرتبطة به، أو المنطلقة منه. لكن للأسف، لا نجد هذا المتغير، لا في واقع الكتابة العربية اليوم، ولا في انطلاق منابر معبرة عن اللحظة التاريخية التي مرّت وتمر بها المنطقة. وبالتالي، يمكن القول إن الحدث التاريخي الجلل الذي شهدته المنطقة في العقد الأخير لم يجد (على الأقل حتى الآن) المنبر الناطق باسمه، ولم يجد الكتاب الناطقين باسمه، ولا الكتابة التي تليق به، مع الاحترام لكل الأقلام التي واكبت الثورات العربية، ودافعت عنها، وبقيت أمينة لهذا الدفاع، حتى في اللحظات التي عانت فيها صعوبات، وحتى في الأوقات التي ظهرت هذه الثورات مهزومةً.

هل يمكن إيجاد تفسير لهذه الظاهرة الفريدة في المنعطفات التاريخية؟ أقترح إجابة على السؤال، النظر إلى الثورات العربية بوصفها حدثاً تاريخياً عظيماً، جاء تعبيراً لرفض جذري للواقع القائم في الدول التي شهدت هذه الثورات، من دون أن تملك البديل المستقبلي لهذا الواقع البائس.

أعتقد أن الحالة الثورية في العالم العربي تعود إلى ثمانينيات القرن المنصرم، حالة ثورية بمعنى أن الناس لم يعودوا قادرين على العيش كالسابق، ولم تعد السلطات قادرةً على العيش كالسابق، وهي الحالة الثورية الكلاسيكية كما تصفها الماركسية. ولكن وجود حالة ثورية لا يعني بالضرورة انفجار ثورة، وبالتالي، يمكن أن تستمر هذه الحالة سنوات أو عقودا من دون أن تنفجر الثورة. على الرغم من ذلك، كانت هناك انتفاضات واحتجاجات كمؤشرات على هذا الاحتقان الثوري في حالتين على الأقل، المصرية في انتفاضة الخبز يومي 18و19 يناير/ كانون الثاني من العام 1977، والتي أطلق عليها الرئيس أنور السادات تعبير "ثورة حرامية". ومرة أخرى انتفاضة الأمن المركزي في العام 1986. الحالة الثانية هي تونس في ثورة خبز أيضا، حيث انتفض التونسيون على خلفية قرار حكومي بمضاعفة سعر الخبز، وامتدت الانتفاضة من الجنوب التونسي إلى العاصمة، وقمعتها قوات الرئيس الحبيب بورقيبة بعنف، وسقط ضحيتها 84 قتيلاً وحوالي ألف جريح حسب الرواية الرسمية. وإذا كانت هذه الأحداث كبرى، فذلك لا يعني أنه لم تقع احتجاجات أخرى، وإنْ على نطاق أصغر، كما حالة احتجاجات الخبز في المغرب عام 1984، والجزائر في العامين 1986و1988، وانتفاضتي مدينة معان الأردنية العامين 1989و1996، وإضراب النقابات المهنية في سورية في عام 1980، وغيرها من الاحتجاجات هنا وهناك في العالم العربي.

يمكن القول إن حالة الاحتقان قد شملت أغلب الدول العربية في عقد الثمانينيات، فهو العقد الذي تسارعت فيه حالة التردّي في كل الدول العربية تقريبا، بما فيها الدول النفطية، والتي وصلت فيها أسعار النفط إلى أقل مستوى ممكن، حيث وصل سعر برميل النفط في العام 1986 إلى أقل من 10 دولارات، بعد أن كان حوالي 40 دولاراً في نهاية السبعينيات.

يمكن اعتبار الثمانينيات عقد الاحتقانات، وعقد القمع الوحشي أيضا، فهو الذي استأصلت في السلطات الديكتاتورية في العالم العربي القوى المعارضة بالمطلق، اختفت بعدها هذه المعارضات، أو تحولت إلى دمىً عند السلطة ذاتها.

وكان من المرجّح أن تنضم المنطقة إلى موجة الثورات الديمقراطية التي اجتاحت دول أوروبا الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، خصوصا أن بعض الأنظمة، مثل سورية واليمن والجزائر، وحتى مصر، تتشابه في قضايا كثيرة مع هذه الدول، لكن الديكتاتوريات العربية نجت من هذه الموجة من الثورات.

افتتح عقد التسعينيات باحتلال العراق الكويت في 1990، وقد أدخل هذا الحدث المنطقة كلها في حالةٍ من التردّي المتسارع، جعلت الجيل الذي ولد في الثمانينيات بلا مستقبل. لقد تم إعدام مستقبل المنطقة فعلياً في هذا العقد، وبدت المنطقة أنها غير قابلة للتغير، وغير قابلة للثورة أيضاً. ولذلك عندما انطلقت ثورة تونس وما بعدها، لم يتوقع أحد أن تطيح ثورة الشباب رأسي النظامين. لكن هذا الجيل كان يحمل طاقة هائلة على الاحتجاج، ولكنه لم يكن يحمل تصورا لعالم ما بعد التغيير الذي لم يكن متوقعا بهذه السرعة، ولا بهذا الشمول لهذا العدد من الدول. ولأنه لم تكن هناك معارضة، وقع عبء الثورات على عبء الشباب القادمين أول مرة إلى ساحة الفعل السياسي، لم تكن لهم تجارب سياسية سابقة، وبالتالي لم تكن هناك صورة أو تصوّر للمستقبل الجديد الذي يريدونه، يوازي القدرة الهائلة على الاحتجاج. لذلك نجد أن الأنظمة عادت لتتماسك، لأنه لم يكن هناك تصوّر جديد يمكن أن يُبنى المجتمع الجديد على أساسه، فتماسك القديم (الحالة المصرية) وشيطن الجديد، بذريعة الاستقرار والإرهاب. وحتى الحالة الأفضل (الحالة التونسية) ما زالت تتخبّط، وما زالت الدولة العميقة تعمل، حتى بعد ما يقرب من العقد على إطاحة الرئيس زين العابدين بن علي.

لأن الجيل الذي صنع الثورات العربية لم يملك أدوات التعبير عنها، ولا الرؤية المستقبلية، لم تجد هذه الثورات صوتها في المنابر الموجودة، لأن هذه المنابر إما منابر سلطات أو منابر معارضة تقليدية، لا يختلف خطابها فعليا عن السلطات، وكتابها إما كتاب السلطات أو كتاب المعارضة التقليدية، لذلك، لم توجَد كتابة جديدة ولا كتاب جدد، لأن صانعي الثورة لم يتحدثوا بلسانهم، إنما تحدّث الآخرون عنهم، بقيت الثورات العربية مقطوعة اللسان فعلياً.

سمير الزبن