العدد 1365 / 12-6-2019

نواف التميمي

يُثبت ما جرى من مجازر في السودان أن الجيوش العربية لم تكن يوماً ظهيراً للوطن أو سنداً للمواطن، بل هي ظهر للحاكم، وعصا غليظة لحماية الأنظمة الدكتاتورية. يُبرهن انقلاب الجيوش على ثورات الشعوب، واغتيال أماني الناس في الحرية والعدالة والكرامة، أن أيادي هذه الجيوش لم تكن يوماً بأيادي الشعوب، بل كانت دائماً مسلطة على رقابها.

في التجربة المصرية انقلب الجيش على ثورة "الغلابة"، وغلّب مصلحة النظام ودولته العميقة على مصلحة الشعب. أجهض انقلاب الجيش الثورةَ المصرية، وأعاد مصر إلى عصور الدكتاتورية وحكم الفرد المتفرّد بمفاصل الحياة وقوت الناس. لم ينحَز الجيش لحماية الشعب الأعزل، واختار بدلاً من ذلك، عزل الشعب وحشره في معاقل الفقر وغياهب المعتقلات. في الظاهر، أعلن الجيش، في بيانه رقم 1، انحيازه لثورة 25 يناير في 2011، و "تأييده مطالب الشعب المشروعة للحفاظ على الوطن ومكتسباته وطموحات شعب مصر العظيم"، ولكن سرعان ما فتح في 2 شباط، بوابات ميدان التحرير لبلطجية موقعة الجمل الذين داسوا الثوار بالبغال والجمال والحمير. وبذلك بدأت حلقات انقلاب الجيش على الثورة، حتى اكتملت بانقلاب الجيش على الثورة ومنجزاتها بعزل الرئيس المُنتخب واستيلاء الجيش على الحكم في صيف 2013.

في التجربة الليبية، وقف الجيش في مواجهة الشعب وانقض على ثورته. رُفع السلاح الذي موّله الشعب في وجه الشعب، واستعرض جنرالات الجيش عضلات شجاعتهم المفقودة في ساحة الاقتتال الداخلي لـ"ضبع" الناس، وكأن أربعين عاماً من القمع والدكتاتورية لم تكن كافيةً لإنهاك هذا الشعب المضبوع أربعين سنة من الجفاف السياسي، لم ير فيها أخضر إلا كتاب العقيد. ومع انتصار الثورة على نظام القذافي، حاول المنتصرون إعادة ترتيب الجيش، ليتولى مهامه في حماية الوطن، وصون سيادته والدفاع عن مؤسساته، غير أن حفنة من هذا الجيش اختارت معاداة الثوار بتأسيس جيشٍ زعمت أنه وطني، حتى كشفت ضراوة معاركه، وشراسة انتقامه عن وجه بشع لمرتزقةٍ معادين لثورة الشعب ومطالبه العادلة.

وفي التجربة السورية، حدّث ولا حرج، فقد أبدى الجيش السوري ضراوة غير مسبوقة في قمع ثورة الشعب. تألق "نسور الجو" في قصف المدن والقرى بالبراميل المتفجّرة، وأحسنت دبابات الجيش في حرث الأخضر واليابس، وفي تسوية المنازل بالأرض، بينما راح المشاة بتعفيش منازل الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم ظلماً وقهراً. حاول الشعب الثائر استمالة الجيش إلى جانب ثورته، مرّات بتوزيع الورود ورفع شعارات "الشعب والجيش إيد وحدة"، ومرّة بتسمية أحد أيام التظاهرات بـ"جمعة حماة الديار" (27 أيار 2011)، إلا أن ذلك كله لم يردع الجيش الذي اختار الانحياز للنظام المُمسك بمقابض السلطة.

ها هو الجيش السوداني الذي تظاهر بتأييد الثوار يرتد منقلباً على ثورة الجياع الثائرين من أجل لقمة الخبز، يقذف ساحات الاعتصام الشعبي بتهم تشكيل "خطرٍ على أمن السودان القومي"، ونشر الفوضى، والتحول إلى "وكر للجريمة"، قبل الانقضاض عليهم، مسترشداً بـ "كتالوغ" قدّمه له من فض اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة، في آب 2013". يختار الجيش فض الاعتصامات السلمية بالنار والبارود، حتى يُثبّت أركان الدولة العميقة بنظامٍ عسكري أكثر بشاعةً من سابقه.

لا تبدو الجيوش العربية الأخرى أحسن حالاً، إذا ما وضعت على محكّ المواجهة الحقيقية مع مطالب الشعوب، بل تبدو (مثالاً في التجربتين التونسية والجزائرية) أقل انحيازاً لخيارات الشعب ومطالبه، وأكثر تمسّكاً بأهداب الدولة العميقة، وأشدّ ولاءً لناهبي مقدّرات الوطن وثرواته.

تُظهر تجارب الثورات العربية المُجهضة، أو التي لا تزال في أطوار الغليان أو المخاض أن شعاراتٍ من قبيل "الجيش والشعب يد واحدة" ما هي إلا كذبة، أو وهم رومانسي في صدور المقهورين. نعم الجيش والشعب يد واحدة، تتلاحم على حماية حدود الوطن، وتفترق عند حدود تواجه الصدور العارية على تخومها غل جيوشٍ تستبيح حرمات الوطن.