العدد 1393 / 1-1-2020

تحوّل مشروع إنجاز قناة إسطنبول المائية المطروح منذ تسع سنوات، من قبل حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، والواصل بين البحر الأسود وبحر مرمرة بموازاة مضيق البوسفور، إلى ميدان تنافس سياسي تركي جديد، ومادة سجال متواصل منذ أسابيع، بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس بلدية إسطنبول، المعارض أكرم إمام أوغلو، الذي يرفض بشدة المشروع، في ظلّ إصرار كبير من قبل أردوغان على تنفيذه وتسريع فترة إنجازه. مشروع القناة كان قد طُرح قبل سنوات طويلة ضمن ما سمي بمشروع العصر، ويبلغ طولها نحو 45 كيلومتراً بعرض 150 متراً، في حين أنّ تكاليف تنفيذها المتوقعة تبلغ نحو 100 مليار دولار، بعد استكمال إنشاء ستة جسور وطرق ومشاريع أخرى مرتبطة بها. ونظراً لطول مدة إنجاز المشروع وتكاليفه العالية، وكونه الأكبر في تاريخ الجمهورية التركية، قدّمت له مسوغات بأنّه يقلّل الاعتماد على مضيق البوسفور من جهة بسبب أخطار الزلازل، ومن جهة ثانية يؤدي إلى التحرّر من الاتفاقيات التي تقيّد يد تركيا بالحصول على عائدات مالية من مرور السفن، على اعتبار أنّ مضيق البوسفور هو ممرّ مائي دولي وفق اتفاقية "مونترو" الموقعة عام 1936، ويحقّ لتركيا فقط إغلاقه وقت الحرب، وهناك تضارب إلى الآن في موضوع تقييد تركيا وحرمانها من تحصيل ضرائب مرور السفن من هذا المضيق.

وكان من ضمن مطالب المتظاهرين في ميدان تقسيم عام 2013، إلغاء مشروع القناة مع مشاريع أخرى مثل المطار الثالث، أكبر مطار في العالم، وهو ما اعتبر البعض في الداخل أنه ترجمة لمطالب غربية أكثر مما هي مطالب من المعارضة، لأنّ دولاً غربية تعترض على المشروع تماماً كما كانت تعترض على إنشاء المطار الثالث.

واكتسب موضوع القناة المائية زخماً في الفترة الأخيرة، لا سيما بعدما فاز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول، وبدأ نجمه يلمع كمنافس لأردوغان. وبعد لقاءات أجراها إمام أوغلو أخيراً مع ممثلي البعثات الأجنبية وزيارته لفرنسا، بدأ الحديث عن معارضته تنفيذ المشروع، فيما كانت الحكومة التركية والبلدية قد وقّعتا بروتوكول تعاون بينهما في هذ الشأن، ليعلن إمام أوغلو الانسحاب منه من طرف واحد، فيردّ عليه وزير الإنشاءات والبنية التحتية، مراد كوروم، بأنه لا يمكنه الانسحاب من الاتفاق، وأنّ ذلك سيرتّب على بلدية إسطنبول جزاءات مالية.

ونتيجة معارضة المشروع من قبل البعض، وتكرار تصريحات إمام أوغلو وأردوغان، سرّعت الحكومة التركية من خطوات طرحه للمناقصة، وتمّ الإعلان عن التقرير البيئي المتعلق بالمشروع قبل أيام، وطُرح أمام الشعب بعد أن خلص إلى أنّ إنشاء القناة لا يؤذي البيئة. كما أنّ المحكمة الدستورية العليا في البلاد، رفضت أخيراً طعناً قدّمه حزب "الشعب الجمهوري" المعارض لإلغاء التشريع القانوني المتعلّق بتنفيذ مشروع قناة إسطنبول المائية وفق نظام BOT، أي البناء والتشغيل والتحويل. وبالتالي، مهّد قرار المحكمة الطريق أمام الحكومة لطرح المشروع، ليؤكد أردوغان وبقية المسؤولين أنّ ذلك سيكون قريباً.

وتتلخّص المبررات التي تقدّمها المعارضة بشأن رفضها للمشروع، في أنّ القناة ستكون مؤثرة على البيئة بالدرجة الأولى. كما تتحدّث عن وجود فساد مالي كبير يتعلّق بالمشروع من خلال شراء الأراضي المخصصة له من جهات داعمة لحزب "العدالة والتنمية"، فضلاً عن أنّه سيكلّف خزينة الدولة أموالاً طائلة بسبب تقديم ضمانات حكومية للشركات المنفذة بالحصول على عائدات سنوية من مرور السفن، وهو ما يشابه الضمانات التي قدمت بشأن بقية الجسور والمشاريع التي نفّذت وفق النظام نفسه في البلاد(BOT)، ما أجبر خزينة الدولة على دفع الالتزامات بعد عدم تحصيل الشركات الأموال المضمونة من قبل الحكومة. ودعم الإعلام المعارض هذه المواقف بالذهاب أبعد من ذلك، إذ اعتبر بعضه أنّ القناة لن تفيد تركيا خصوصاً أنّ الاتفاقيات الدولية لن تمنح أنقرة مزيداً من الامتيازات، فضلاً عن الدعوة لإجراء استفتاء على المشروع من قبل أهالي إسطنبول، والحديث عن المخاطر البيئية والفساد، ومطالبة الحكومة بتوضيح المشروع لأهالي تركيا وإسطنبول قبل تحميل خزينة الدولة تكاليف باهظة.

مقابل ذلك، اعتبر الإعلام الموالي للسلطة والجهات الداعمة لإنشاء القناة، أنّ المعارضة تشكّل رأس الحربة في المواجهة الغربية الرافضة للمشروع، والذي تتوقّع الحكومة التركية أن يدّر على خزينة البلاد سنوياً ما يعادل 10 مليارات دولار. كما اعتبر أنّ تحوّل إمام أوغلو إلى أبرز معارض للمشروع يحوّله إلى قطب من المعارضة ويخرجه من إطار رئيس بلدية منتخب من قبل كل سكان إسطنبول. وأشارت هذه الجهات إلى أنّ المشروع سيكون له أثر إيجابي كبير على تركيا وتطورها، وسيبني مدينة عصرية ويوفر فرص عمل لمئات آلاف الأتراك، وليس له أي مخاطر بيئية أو تلك الناتجة عن احتمال حصول زلازل.

لكنّ مطلعين على الخلاف القائم، لفتوا إلى أنّ من أبرز أسباب المواجهة بين أردوغان وإمام أوغلو، هو تغيّر الخريطة السياسية في البلاد بعد الانتخابات المحلية التي جرت قبل أشهر، وأظهرت تراجع مؤيدي حزب "العدالة والتنمية"، مقابل تصاعد نجم حزب "الشعب الجمهوري"، ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، إضافة إلى تشكُّل أحزاب سياسية من رحم "العدالة والتنمية"، خصوصاً مع إعلان رئيس الوزراء الأسبق الذي كان مقرباً من أردوغان، أحمد داود أغلو، تشكيل حزب "المستقبل" قبل أسابيع، واستعداد نائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان لتشكيل حزب جديد الشهر المقبل، وكلا الحزبين منشقان عن "العدالة والتنمية". وبحسب مطلعين، فإنّ ولادة أحزاب جديدة قد تؤدي إلى انتخابات مبكرة، تأمل المعارضة أن تكون في خريف العام المقبل، مع ثقتها بإمكانية الإطاحة بأردوغان بعد استنزاف "العدالة والتنمية"، ليكون بديله إمام أوغلو الذي يكثّف من معارضته لمشروع القناة لاكتساب تعاطف شعبي أكبر من قبل المعارضة، في السياق السياسي التركي.

على الرغم من ذلك، فإنّ الأطراف الموالية لحزب "العدالة والتنمية" ترى تعذراً في إجراء انتخابات مبكرة، لأن ذلك سيعني أنّ المعارضة ستفقد بلدية إسطنبول في حال ترشح إمام أوغلو للانتخابات بعد استقالته، ليهيمن "العدالة والتنمية" على المجلس البلدي، وذلك في ظلّ حديث عن عدم تسجيل أي إنجازات لإمام أوغلو إلى الآن بعد مرور 6 أشهر على توليه رئاسة البلدية.