بسام ناصر

تجد الاتجاهات الإسلامية نفسها أمام تحديات الحداثة الغربية، بمستوياتها المختلفة، وقد داهمتهم في عقر بيوتهم، تحت نفوذ العولمة التي اخترقت كل الحدود القومية والوطنية، وفرضت نفسها بسيف التغلب وسطوته، الذي يمكّن أصحابه من إشاعة الأنماط الفكرية والسياسية والاجتماعية والحياتية المختلفة على الشعوب التي تعيش في مناطق نفوذهم. 
تقف الاتجاهات الإسلامية المختلفة على مفرق طرق أمام تحديات تلك الثقافة المتغلبة، فإما أن ينساقوا وراء أفكارها ورؤاها بالكلية، أو يرفضوها رفضاً كاملاً، أو يخضعوها للدراسة والتقييم فيأخذوا منها ما يتوافق مع مبادئهم وأصولهم، ويردوا ما يتعارض معها.
ثمة حالة سابقة في التاريخ الإسلامي تظهر كيف تعامل العلماء والفقهاء مع الفلسفة اليونانية المترجمة إلى اللغة العربية، وقد راوحت مواقفهم بين من رفضها رفضاً قاطعاً كما فعل أبو عمرو بن الصلاح في عبارته الشهيرة «من تمنطق فقد تزندق»، ومنهم من درسها وهضمها جيداً وتأثر بها، كحالة أبي حامد الغزالي، وموقف آخر درسها دراسة متأنية وفهم مباحثها فهماً دقيقاً، لكنه تصدى لمناقشتها والرد عليها كما فعل تقي الدين بن تيمية. 
وفي واقعنا المعاصر حين هبت رياح الثقافة الأوروبية على عالمنا الإسلامي، تراوحت المواقف بين من يرفضها بالكلية، ومن يرى أنه لا نهضة للأمة إلا بالأخذ بها، وموقف ثالث دعا أصحابه لأخذ الصالح من تلك الثقافات، الذي يقع في دائرة المشترك الإنساني، ورفض ما لا يتوافق مع الأصول والمبادئ الدينية والعادات والتقاليد المجتمعية السائدة. 
وكان من تطبيقات الموقف الأخير إعلان اتجاهات إسلامية، عريضة القاعدة وواسعة الانتشار، عن أخذها بالنظام الديمقراطي الغربي، وقبولها بممارسة السياسية بحسب شروط اللعبة الديمقراطية، وقد واجهت اعتراضات شديدة وقوية أثارتها في وجهها اتجاهات إسلامية أخرى رفضت الديمقراطية باعتبارها نظاماً (كفرياً) لا يمكن تقبله استناداً إلى أفكارهم وأسانيدهم الشرعية التي تذهب إلى أن الأخذ بها يوقعهم في محظورات شرعية لا محالة. 
وبعد ولوج الاتجاهات الإسلامية (الديمقراطية) للحياة السياسية، وممارستها للعمل السياسي في المجالس النيابية وتولي الحكومات والوزارات، عرضت لهم تحديات من نوع آخر، تمحورت حول ضرورة الانعتاق من المفاهيم المؤسسة لحركاتها الأم، كالحاكمية وتطبيق الشريعة، ودور السلطة في تطبيق الأحكام الشرعية بسيف القانون وقوة الدولة، وإقامة العلاقات على أسس عقائدية صارمة (الولاء والبراء)..إلخ.
فأخذت تلك الاتجاهات في التأسيس لمفاهيم جديدة، كالدعوة إلى دولة مدنية بمرجعية إسلامية أو بدونها (عند بعضهم)، وإقامة العلاقات في المجتمع على أساس المواطنة وليس على أساس العقيدة، والتعددية الفكرية والسياسية، والتخلي عن فكرة وجوب قيام الدولة بتطبيق أحكام الشريعة بالقوة، والقبول بفكرة عدم انحياز الدولة إلى أيديولوجية بعينها، لأنها تقف على مسافة واحدة من كل المكونات الفكرية والسياسية من غير أن تنحاز إلى أي منها. 
كما يدور الجدل في أوساط تلك الاتجاهات على ضرورة فصل الديني عن السياسي، وبعضها يتجنب إطلاق عبارة «الفصل» مختاراً التمييز بين الديني والسياسي، وهي في تطبيقاتها ومآلاتها لا تختلف كثيراً عن حقيقة الفصل بين الديني والسياسي، وثمة من يضيق الدعوة بحصرها في فصل الدعوي عن السياسي داخل مؤسسات الحركات وأطرها الداخلية نفسها. 
تلك التحولات والتغيرات في أوساط تلك الاتجاهات لم تعد تخفى على عين الراصد والمتابع، وهي تعبر عن حالة التدافع العارم والجدل الساخن بين الأفكار والمبادئ المؤسسة، وبين ما تفرضه تحديات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، وما تسوقه العولمة بثقافتها وأنماطها الحداثية التي اخترقت جميع الحواجز والجدران، وهددت الحصون والقلاع من داخلها.
ما يلزم تلك الاتجاهات وهي تشق طريقها نحو التأسيس المفاهيمي لرؤى وأفكار تغاير ما نشأت عليها حركاتها الأم، أن تتحلى بالجرأة الفكرية التي تمكنها من التفكير خارج تلك الأطر التي ترعرعت ونشأت في أحضانها، وبالجرأة الأدبية ثانياً بإعلانها الصريح عن تلك التحولات والتغييرات، تماماً كما قال قيادي إسلامي بارز حين قال له محاوره: ما تطرحه من أفكار ورؤى هو عين ما تدعو إليه العلمانية، فما كان منه إلا أن قال: وليكن إن كانت صواباً وحقاً فلم لا نأخذ بها؟}