الشيخ محمد حمود

لمّا أسلمت غُزيّة العامرية – أم شُريك رضي الله عنها – فرّقوا بينها وبين زوجها. وقادها قومُها معهم بعيداً عن زوجها، تقول حملوني على شرّ ركابهم، ومنعوا عني الطعام والشراب ثلاثة أيام، حتى تقطّعت كبدي، بل حتى ذهب بصري من شدة الجوع والعطش. تقول وربطوني تحت الشمس، والله أعلم بحالي. يقولون لها ارجعي عن دينكِ نطعمكِ ونسقيكِ، قالت أبداً، ما أرجع عن ديني طرفة عين مهما كانت العروض، مع أنها في موقف يسمح لها ان تقدّم تنازلاً ولا تثريب عليها ولا لوم، لكنها عزة المؤمنين والمؤمنات والصادقين والصادقات. 
تقول: بينما أنا على تلك الحال من العذاب الشديد حتى بلغ بيَ الجهد، إذا بدلو معلّق بين السماء والأرض تدلّى، فشربت منه وأنا التي ذهب بصري، شربت منه حتى ارتويت، فخرج القوم وإذا بالماء من حولها من كل مكان، فقالوا لها من أين لكِ الماء يا عدوّة الله. قالت بل عدوّ الله غيري، عدوّ الله من أشرك بالله، عدوّ الله من يحارب الله، عدوّ الله من لا يثق بالله، قالت بل رزق رزقنيهِ الله، الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، الله الذي قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، قريب أسمع وأجيب، وأعطي البعيد والقريب، وأرزق العدّ والحبيب. قريب أغيث اللهفان، وأشبع الجوعان، وأسقي الظمآن، وأكافئ الإحسان. قريب عطائي ممنوح، وخيري يغدو ويروح، وبابي مفتوح، وأنا حليم كريم صفوح. قريب يدعوني الغريق في البحار، والضال في القفار، والمحبوس خلف الأسوار، كما دعاني عبدي في الغار. قريب فرجي في لمحة البصر، وغوثي في لفتة النظر، والمغلوب إذا دعاني انتصر. 
فنظر القوم الى بعضهم ثم نظروا اليها وقالوا: والله إن الذي رزقك هذا الماء لهو الاله الحق، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله. بثبات المؤمنة وبثبات الصادقة وموقفها الشديد أسلم القوم. إنها فارسة القول والفعل، مجسّدة إيمانها في صورة فريدة من صور الجهاد السلميّ والدعوة بالكلمة. إنه درس من الثبات، إنه الإيمان الذي جعل المؤمنات كالجبال الراسيات، فلا عذاب ولا تهديد يجعلهن يقدمن أي تنازلات، بل إباء وشموخ وثبات. فما بال نسائنا وفتياتنا يتساقطن اليوم أمام أتفه وأبسط الفتن؟ 
أسلمت بطلتنا أم شَرِيك، غَزِيَّة بنت جابر بن حكيم العامرية، ثم لم تقف عند إسلامها، فجعلت تدعو النساء إلى الإسلام، وترغبهن فيه وتحببه إليهن، وتخرج من بيت إلى بيت، وتنتقل من امرأة إلى أخرى.
أفليست بثباتها وعمق إيمانها هي التي أرتهم - بفضل الله - مظهراً من مظاهر قدرة الله ورحمته، اللتين لا تحدُّهما الأسباب، ولا يوصَد أمامهما أي باب. ورغم كونها امرأة ضعيفة، فقد تحمّلت في سبيل دينها ودعوتها ما تنوء به الجبال، فلم تترك عذراً لقاعد ولا متخلف، إذ كانت مثالاً رائعاً في العمل والتضحية والفداء والصبر، وكسر ما يعوّقها من حواجز، لتنشر الخير والهدى بقلب ملؤه اليقين والثقة والهمة العالية بأن الله تعالى ناصر المؤمنين لا محالة.
فطوبى لأمّ شريك رضي الله عنها، طوبى لها صمودها ورباطة جأشها، واحتسابها.
طوبى لها حين تأتي يوم القيامة وفي صحيفتها رجال ونساء أسلموا على يدها.