العدد 1339 / 28-11-2018

بقلم : معين الطاهر

قبل التسلّل الإسرائيلي إلى خان يونس، كان هناك اتفاق أوليّ على تهدئة بوساطة مصرية، شارك فيها مبعوث الأمم المتحدة لعملية السلام، نيكولاي ملادينوف، وأسفرت عن دخول أموال قطرية تغطّي جانبًا من رواتب الموظفين، وتموّل الوقود، وترفع ساعات توليد الكهرباء في قطاع غزة إلى أكثر من الضعف، بعد أن كان المواطن الغزيّ لا يحظى بأكثر من أربع ساعات من الكهرباء يوميًا، وهو ما انعكس على مجمل الحياة اليومية. وساد شعورٌ بأنّ غزة مقبلة على هدوءٍ ما، يتيح لأبنائها قدرًا معقولًا، في ظروف الحرب والحصار، للعيش في أجواء أكثر يُسرًا مما عانوه سابقًا، ضمن معادلة هدوءٍ فلسطيني في مقابل هدوء صهيوني، مع تعهداتٍ من الطرفين بتوفير أسباب هذا الهدوء، مثل إبعاد مسيرات العودة عن الجدار الشائك، ووقف

البالونات الحارقة، وضبط الحدود من الجانب الفلسطيني، ويقابل ذلك باستمرار تزويد القطاع بالوقود والأموال، وتسهيلات على المعابر الحدودية، وتوسيع رقعة الصيد البحري، والتمهيد لمفاوضاتٍ أوسع، قد تشمل ملفات الأسرى، وترتيبات لميناء ومطار، وتسهيل التجارة مع غزة منها وإليها.

استغرقت هذه المفاوضات وقتًا طويلًا، وتدخلت فيها أطرافٌ إقليميةٌ ودولية، عارضتها السلطة بعقوباتٍ فرضتها على القطاع بذرائع شتى، أقلها وضع "تمكين حكومتها" و"سيطرتها على غزة وسلاحها" شرطًا لرفع الحصار عنها، وعودة الهدوء إليها. لكنّ المقاومة نجحت، بوحدة فصائلها، وعبر الحراك الشعبي المتمثل بمسيرات العودة، في الوصول إلى معادلةٍ جديدةٍ، قوامها الهدوء مقابل الهدوء، وقامت بترشيد مسيرات العودة من دون وقفها، مقابل تسهيلاتٍ وُعدت بأنها ستحصل عليها.

من دون التقليل من إنجاز المقاومة وتضحيات أهل القطاع، فإنّ موافقة العدو على هذه التسوية، وتفويضه النظام المصري الوصول إليها، لم يكونا نابعين من انزعاجه من ذلك الحراك الجماهيري، وما نتج عنه من حالةٍ غير محتملة في مستوطنات جدار غزة فحسب، وإنّما من رغبة العدو في عزل القطاع، وتحييده عن معركة فرض الأمر الواقع في الضفة الغربية، وفقًا لمقتضيات صفقة القرن التي اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبشرعية الاستيطان في المناطق المحتلة. وإلى حين استكمال الاستعدادات الإسرائيلية لتوجيه ضربةٍ إلى المقاومة في غزة، بعد أن تتمكّن استخباراته من الإجابة عن أسئلة تتعلق بشبكة الأنفاق وانتشارها، وبالسلاح؛ مواقعه وحجمه، وبأماكن وجود قادة المقاومة، ومراكز القيادة والسيطرة لديها، وحل معضلاتٍ تتعلّق بالجبهة الداخلية، ومدى قدرتها على الصمود بأقل الخسائر، وتطوير نظام القبة الحديدية التي ثبت فشلها، والتأكد من قدرات قوّته البرية على التقدّم والاحتلال .

لذا من الخطأ اعتبار أنّ ما حدث هدنة دائمة وهدوء مستمر، فذلك وهم كبير يكاد يقترب من الذي ساد عند توقيع اتفاق أوسلو بأنه الطريق إلى دولة فلسطينية، وهو وهم ينمّ عن جهل كامل بالمشروع الصهيوني على أرض فلسطين. نعم، من حق غزة أن تنعم بالهدوء وبرفع الحصار وإنهاء العقوبات، ولو كان نسبيًا ومحدودًا من حيث الزمان والمدى، ومن حقها أن تسعى إليه بالوسائل والسبل كلها، فهو حقها في الحياة.

ما جرى في خان يونس ليس حدثًا روتينيًا قام به الجيش الإسرائيلي، بل عملية عسكرية احتاجت إلى مصادقة رئيس الأركان ووزير الدفاع ورئيس الوزراء، وهذا يدل على أهميتها، وعلى نيّات العدو الذي أطلق العملية في وقتٍ كان يتحدّث فيه عن الهدوء والهدنة. وثمّة تساؤل كبير عن سبب عدم تصعيده ضرباته، بعد أن تلقّى ضربة موجعة، ورغبته في التوصل السريع إلى وقف إطلاق النار، وتحمّل قيادته السياسية والعسكرية اتهامات من المعارضة ومن داخلها، برضوخها لإرادة المقاومة، وفشلها في إدارة المعركة معها، وهو تساؤلٌ ممتدٌ عن سبب تحمله البالونات الحارقة والطائرات الورقية، واجتياز الشريط الشائك في سلوكٍ لم نعتده سابقًا من هذا العدو.

"من الخطأ اعتبار أنّ ما حدث هدنة دائمة وهدوء مستمر، فذلك وهم كبير يكاد يقترب من الذي ساد عند توقيع اتفاق أوسلو بأنه الطريق إلى دولة فلسطينية"

التفسير الوحيد لذلك هو ما صرّح به العدو نفسه إنّه في خضم عملية كبيرة، ثمّة هدف كبير أمامه يسعى إلى تحقيقه، ويعمل عليه منذ أعوام، وأعاد تأهيل جبهته الداخلية لمواجهة احتمال الحرب على جبهتين، وبقاء الكيان بأسره تحت النار فترة طويلة، مع سعي دؤوب إلى تلافي الثغرات في معلوماته الاستخبارية على الجبهتين، الجنوبية والشمالية.

قد يتجاوز الهدف المقبل للعدو غزة إلى الجبهة الشمالية مع لبنان وسورية، لكنّه قد يشملها أيضًا، وهو يفسر سعيه السابق إلى الهدوء الموقت على جبهة غزة، ويصبّ في المساعي الأميركية لفرض عقوباتٍ على إيران، كما يخدم الرغبة الأميركية والصهيونية في إقامة تحالف إقليمي يضمّ بعض العرب مع العدو الصهيوني

والسؤال الأخير هنا لا يتعلّق بموقف بعض الأنظمة العربية التي انساقت وراء هذا المخطط الصهيوني، ودفعت إليه، وإنما يتعلّق بالنُخب الفلسطينية التي مزّقها الانقسام واللهاث وراء وهم التسوية، ومتى ستدرك أنّ أمامها ما هو أهم، أمامها وحدة الموقف والمصير. والسؤال موجّه للنُخب العربية التي قسّمها الموقف من سورية أو مصر والتلاعب في ثوراتهما، وموقف هذه النخب من شعارات الحرية ومواجهة القمع والاستبداد، هذه القوى كلها، وعلى ضفتي السؤال، هل لديها إجابة بشأن كيف سيكون اصطفافها عند مثل تلك المواجهة. وهل ستتغلّب وحدة الوطن ومصيره ومواجهة العدو في معركة مصير مستقبلٍ آتٍ على جميع تراكمات الماضي بكل سلبياته؟