بسام ناصر

 بعد رفعها لافتات الديمقراطية، باتت نخب ورموز بقايا اليسار العربي تقدم نفسها للأنظمة السياسية باعتبارها قوى وأحزاباً سياسية قادرة على سحب البساط من تحت أرجل الإسلاميّين، وهو ما صدقته بعض تلك الأنظمة فقدمتهم ورفعت عنهم قيود الحظر، ومنحتهم الفرصة لعلهم يحققون بعض ما يعدون به. 
لكن تلك القوى بنخبها ورموزها المعزولة عن الشارع العربي، تُمنى في كل انتخابات برلمانيّة أو بلدية أو غير ذلك بالفشل الذريع، وتأتي النتائج لتظهر مدى ضعف وجودها، وهشاشة تأثيرها وحضورها الجماهيري. 
من المعروف أن غالب التيارات اليسارية بخلفياتها الأيديولوجية، تتبنى أفكاراً ورؤى مخاصمة للدين بشكل جذري، ومستهزئة بمعاشر المتديّنين، لكن الدربة السياسية علمتهم أن إظهار الخصومة للدين سرعان ما تستفز الشعوب العربية والإسلامية ضدهم.
فكانت الوصفة الذهبية تتمحور حول إظهار التحول إلى الديمقراطية والعلمانية، وإخفاء حقيقة أفكارهم المخاصمة للدين في عقائده وشرائعه، ولتكن مهاجمتهم منصبّة على الحركات الإسلامية السياسية، تحت ذرائع مختلفة، كغيابها عن الواقع،  واستغراقها في رؤاها الماضوية، وتوظيفها للدين لأغراض وأجندات سياسية، وتكثيف جهودها باتجاه علمنة الدين في ذاته. 
كل تلك التقنيات والالتفافات لم تُجدِ نفعاً، ولم تؤتِ ثمارها كما كان يرجو من عمل عليها، فكل التوجهات التي سعت بجد واجتهاد لعزل الدين عن الحياة العامة، وحصره في نطاق السلوك الشخصي، باءت بالفشل الذريع، لأنها عجزت عن تسويق خطابها في أوساط إسلامية شعبية متشبعة تماماً بفكرة شمولية الإسلام وهيمنته على الحياة الشخصية والعامة هيمنة تامة. 
  حين يتابع المراقب بعض منظري تلك التوجهات، الذين يهدفون إلى تسويق فكرة حصر الدين في الاختيار الشخصي، يجد أنهم باتوا يسعون لتحقيق ذلك عبر أدوات وآليات دينية، كجنوح بعضهم إلى مذهب «القرآنيّين» الذي يقوم في بنيته الأساسية على أن القرآن هو مصدر التشريع الإسلامي الوحيد، وأن السنة النبوية لا دور لها في التشريع وإنشاء الأحكام وتفصيلها. 
ومنهم من يسعى لإحياء مقولات الشيخ الأزهري على عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، التي رام فيه إثبات قصر الرسالة الإسلامية على الدعوة الروحية، ولا علاقة لها بالسياسة، وأن الإسلام لم يأت بتشريعات خاصة بالسياسة وسائر شؤون الحياة الأخرى..
لماذا يتغافل كل أصحاب تلك الاتجاهات والتوجهات عن حقائق لا يمكن تجاوزها؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام كما كان نبياً رسولاً، كان قائداً عسكرياً، ورئيس كيان سياسي، مارس مهام ووظائف القائد السياسي، خاطب الزعماء والملوك، وعقد المعاهدات والاتفاقيات، وسيَّر الجيوش، وخاض المعارك، وفتح البلاد وأقام فيها حكماً تابعاً له، فكيف يمكنهم تجاهل ذلك كله؟
يتوهم بعضهم أنه إن تمسك بتفسير آيات الحكم الواردة في القرآن الكريم إلى معنى القضاء والتقاضي، أنه قد تخلص بذلك من تبعات الأمر القرآني بإقامة حكم الله في الأرض، مع تمام غفلتهم أو تغافلهم عن أن من تنزل عليه القرآن سلك طريقاً مغايراً تماماً للذي فهمه منظرو تلك الاتجاهات، فقد أقام نظاماً سياسياً جعل الشريعة فيه مصدر الأحكام، وهي المرجعية الحاكمة لسلوك أتباعها في المجتمع الإسلامي.
ففي الممارسة النبوية العامة، تم إخضاع جميع مناحي الحياة لأحكام الشريعة، وكذلك كان حال خلفائه من بعده، في اقتفاء أثره والسير على طريقته في تسيير شؤون الحكم والناس، فالدين عندهم ليس لتوجيه الفرد المسلم في حياته واختياراته الشخصية، بل لضبط مسيرة المجتمع بكليته.
كيف يفعل المسلمون بنظام العقوبات المنصوص عليه في الشريعة؟ هل يسع المسلمين أن يقوموا بإلغاء تلك العقوبات أو تبديلها مثلاً؟ ألا يحتاج تطيبقها إلى نظام حكم يقوم على ذلك؟ كيف يمكن تطبيق تشريعات الإسلام الاقتصادية والمالية، إن لم يكن النظام قائماً على ذلك وملتزماً به؟ 
لا يمكن بحال تجاوز ذلك كله، لدعوات ونظريات ينظر إليها عموم المسلمين باعتبارها دعوات متهافتة وبائرة، يسعى منظروها لاستنباتها في أرض لا تصلح لها، ما يجعل ثمارها في كل مرة تأتي فاسدة.}