العدد 1450 /24-2-2021

ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من البعثة الى الطائف يعرض عليهم رسالة الإسلام، فاستقبلوه بما لم يتخيَّله صلى الله عليه وسلم من السخرية والاستهزاء، بل ولقد تحدث سادتهم معه بدرجة عالية من السفاهة.

اجتمعت المدينة بكاملها على تكذيبه، حتى قالوا له في اليوم العاشر: اخرج من بلادنا، وقد أغرَوْا به سفهاءهم وغِلمانهم، فصفُّوا أنفسهم صفين خارج الطائف، وأرغموه صلى الله عليه وسلم وصاحبه زيدًا على المرور بين الصفين، وجعلوا يقذفونهما بالحجارة، حتى سالت الدماء من قدميه الشريفتين، وشُجَّتْ رأسُ زيد رضي الله عنه.

وانطلق الرسول ومعه زيد يعدوان بعيدًا عن المدينة، والسفهاء وراءهما بالسباب والحجارة، حتى أرغموهما على دخول حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، حيث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء المشهور الذي يفيض ألمًا وحزنًا فقال:

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يكن بك غضبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحُلُّ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ».

يقول صلى الله عليه وسلم: «فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ». فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.

يا الله، بعد ان آذوه وشتموه وأدموا قدميه، ونالوا ما نالوا منه من السخرية والإستهزاء يحرص على هدايتهم وإنقاذهم، بدل تدميرهم وهلاكهم.

والله مهما تكلمت الأفواه أو سطرت الأقلام فستظل كأنها لم تبرح مكانها، فمن ذا الذي يستطيع أن يصف، أو ينصف عظمة سيد ولد آدم؟ ومهما خُطت له الصحائف وأُلفت له المؤلفات عن شخصيته وحياته فإنها ستسكت على استحياء، لأنها لا تستطيع أن تستوعب بصفحاتها مهما كثرت جانباً واحداً من عظمته..

كان باستطاعة الرسول الكريم بعد أن أتاه ملك الجبال بأمر من الله أن يحسم الأمر فوراً وينتقم ويتشفّى، لكن الرسول العظيم ورغم الواقع المرير القاتم المسدود الآفاق في مكة وفي الطائف، آثر الإستمرار في درب طويل شائك ورفض مبدأ الحلول السريعة.

هذا الانحياز للتفاعل الممتد من النبي الكريم يقتضي بالطبع استراتيجية تغيير ذكية بعيدة المدى، تضمن في نهايتها أن يخرج الله من أبناء من أهانوه وطردوه جيلاً جديداً يعبد الله وحده. وهنا تتمثل عظمة القائد الذي يفكّر ويتصرف بعبقرية واستراتيجية ليكسب الناس كل الناس تحت مظلة رسالته، فهو صاحب رسالة وكل ما يصب في مصلحة هذه الرسالة يراعيه حتى ولو كان على حساب جهده. وبهذا تجلَّت براعته ليرسم خطًى يسير على أثرها كل من وصلت له دعوة الإسلام.

الشيخ محمد أحمد حمود