العدد 1470 /14-7-2021
الحمد لله الذي خلق الزمان،
وفضَّل بعضه على بعض, وخصَّ بعض الأيام بفضائل ورحمات, وأمر عباده بالتعرُّض لهذه النفحات
لسد؛ القصور وزيادة القربى منه عزَّ وجلَّ؛ لينالوا عنايته ومعيته ورعايته وحمايته,
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا الخير دهركم، وتعرَّضوا لنفحاتِ رحمة
الله، فإن لله نفحات من رحمته، يُصيب بها مَن يشاء من عباده".
إنها فرصة هائلة.. أخي المسلم..
فرصة.. لبدء صفحة جديدة مع
الله..
فرصة.. لكسب حسنات لا حصر
لها تعوِّض ما فات من الذنوب..
فرصة.. لتجديد الشحن الإيماني
في قلبك..
فضل هذه العشر
قال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ
(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾ (الفجر)، ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس قوله: هي ليالي
العشر الأول من ذي الحجة.
وقال تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ (الحج: من الآية 28)، نقل البخاري في صحيحة
عن ابن عباس قوله في هذه الأيام: إنها أَيَّامُ الْعَشْرِ.
وعن جابر بن عبد الله رضي
الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر"
(صحيح- صحيح الجامع الصغير،"1133").
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا الْعَمَلُ
فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ"، قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ، قَالَ:
"وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ
يَرْجِعْ بِشَيْءٍ". (صحيح البخاري، "969"). إلا: أي إلا جهاد رجل..
وفي رواية الترمذي وأبي داود: وعَنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ
هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ"، فَقَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَلا الْجِهَادُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ
ذَلِكَ بِشَيْء"ٍ. (صحيح/ صحيح سنن الترمذي).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 2/534): "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي
الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه, وهي الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج, ولا يتأتي
ذلك في غيره".
وقد سُئل شيخ الإسلام ابن
تيمية (مجموع فتاوى ابن تيمية: 25/154) عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان، أيهما
أفضل؟ فأجاب: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر
من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
وقال ابن قيم الجوزية (بدائع
الفوائد: 3/660): وإذا تأمَّل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيًا كافيًا، فإنه ليس
من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها يوم عرفة، ويوم النحر،
ويوم التروية، وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر، فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم
يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.
ومن أسباب تفضيل الله عزَّ
وجلَّ لهذه الأيام العشر، أنَّ فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه
الدّين، وصيامه يكفِّر آثام سنتين.
وفي العشر أيضًا يوم النحر
الذي هو أعظم أيَّام السنة على الإطلاق، وهو يوم الحجِّ الأكبر، الذي يجتمع فيه من
الطاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ أَعْظَمَ اْلأَيَّامِ عِنْدَ
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ". (صحيح/
صحيح سنن أبي داود)، وقال الألباني يوم القرِّ هو الغد من يوم النحر، وهو حادي عشر
ذي الحجة؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى، أي يسكنون ويقيمون.
ولنا وقفه مع حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ
إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ"، فها هو الحبيب صلى الله عليه
وسلم يخاطب الصحابة رضوان الله عليهم، قائلاً "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى
الله", يخاطبهم وقد ربَّاهم على يديه صلى الله عليه وسلم على حبِّ الله وحبِّ
كل عمل يقرِّب إلى الله, وهنا لكي نصلح من واقعنا وأنفسنا لا بدَّ أن ندرك البون الشاسع
بيننا وبينهم, فأنت إذا سألت مجموعة من الشباب اليوم ما أحب شيء إليك؟ فماذا تكون الإجابة؟
ألا يجيبك أحدهم أن أحب شيء
إليه مشاهدة مباراة لكرة القدم بين فريق كذا وكذا، ويا ليته يمارس الرياضة، بل يشاهدها
وفقط, ويجيب آخر مشاهدة التلفاز، وآخر الجلوس أمام الـ"نت" (الشبكة العنكبوتية)
وآخر أحب الأشياء إليه التنزُّه مع الأصدقاء، وهذا الجلوس على المقاهي.
ولعلنا نجد على الجانب الآخر
أيضًا نماذج الخير في المجتمع من أحب الأعمال إليه اعتكاف في بيت من بيوت الله، يقرأ
آياته ويتدبَّرها, يصفُّ قدميه خاشعًا متبتلاً بين يدي ربه، وهذا أحب الأشياء إليه
الصلح بين الناس وهذا "ألذ" الأعمال إليه خدمةً الناس وإغاثة الملهوف، يسيطر
على عقله وقلبه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عبد الله بن
عمر أن رسول الله قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة
أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة،
ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة" (متفق عليه).
وهنا لا بدَّ لنا من وقفة
أخرى مع رد الصحابة- رضي الله عنهم- وسؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟!، ها هم الصحابة يردون
ويسألون بما تربَّوا عليه من فقه للأولويات, فأعلى الأعمال درجةً عند الله عندهم هو
الجهاد في سبيل الله، ولا يعلمون شيئًا أعلى درجة منه؛ ولذلك كان العجب والسؤال.
وإن عدَّد العلماء مشاريع
العمل الصالح في هذه الأيام العشر المباركة من مشروع التوبة النصوح، مشروع المحافظة
على صلاة الفجر وصلاة الجماعة بالمسجد، مشروع الذكر، مشروع ختم القرآن، مشروع الصيام،
مشروع الحج والعمرة، مشروع قناطير الفردوس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، من قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن
قام بألف آية كتب من المقنطرين"، مشروع الأخوة في الله، مشروع صلة الأرحام، سرور
تدخله على مسلم، مشروع الدعاء، مشروع عظيم جدِّا (يوم عرفة) مشروع يوم العيد.
أقول إننا في حاجة اليوم لنعي
هذا الدرس من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتعلم فقه الأولويات للعمل الصالح،
وكما قال الشيخ القرضاوي: "من فقه الأولويات في ترجيح العمل: أن يكون أكثر نفعًا
من غيره، وعلى قدر نفعه للآخرين يكون فضله، وأجره عند الله؛ ولهذا كان جنس أعمال الجهاد
أفضل من جنس أعمال الحجِّ، لأن نفع الحجِّ لصاحبه، ونفع الجهاد للأمة، وفي هذا جاء
قول الله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا
يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ
آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)﴾ (التوبة).
وكان الجهاد في سبيل الله
أفضل عند الله وأعظم أجرًا من الانقطاع للعبادة، مرات ومرات.
قال أبو هريرة رضى الله عنه:
مرَّ رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة (عين صغيرة) من ماء
عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب؟! (أي للعبادة) ولن أفعل
حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: "لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا،
ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله
فواق ناقة، وجبت له الجنة، وفواق الناقة: ما بين رفع يدك عن ضرعها وقت الحلب ووضعها
(الشيخ القرضاوي: من كتابه النافع فقه الأولويات). لذلك كان لنا أن نرتب عقولنا واهتماماتنا
وأوقاتنا وأعمالنا تبعًا لهذا الفقه.
ويقول في مقام آخر من الكتاب
لا يقتصر هذا الاختلال على جماهير النّاس، بل يشمل حتى أهل التدين؛ حيث تجد الكثير
من المحسنين مستعدين للإنفاق السخي لبناء مسجد يضاف إلى مساجد كثيرة في نفس المدينة،
ويحرصون على تكرار الحج عشرات المرات، بينما
يحجمون عن البذل لنشر الدعوة، أو دعم الجهاد لتحرير بلد إسلامي محتل، في ذهول عن فقه
مراتب الأعمال الذي أفصح عنه مثل هذا النص المحكم: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ
وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ
وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَائِزُونَ (20)﴾ (التوبة).
وما أجمل أن أختم ما سطَّر
قلمي ونحن نصغى لوصية ابن رجب وهو يصرخ فينا وينبهنا ويقول: الغنيمة الغنيمة بانتهاز
الفرصة في هذه الأيام العظيمة.
فما منها عوض ولا لها قيمة.
والمبادرة المبادرة بالعمل.
والعجل العجل قبل هجوم الأجل.
قبل أن يندم المفرط على ما
فعل.
قبل أن يسأل الرجعة ليعمل
صالحًا، فلا يُجاب إلى ما سئل.
قبل أن يحول الموت بين المؤمل
وبلوغ الأمل.
قبل أن يصير المرء مرتهنًا في حفرته بما قدم من عمل.
فالله العلي القدير أسأل أن يولي علينا خيارنا، ولا
يولي علينا شرارنا، وأساله جلَّ وعلا أن من أراد الإسلام والمسلمين بخير فليوفقه إلى
كل خير، ومن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فليرد كيده في نحره، وليجعل تدميره في تدبيره،
وليأخذه أخذ عزيز مقتدر، وليخلص البلاد والعباد منه ومن عاونه.. اللهم آمين آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم: د. مصطفى شلبي