بسام ناصر

«الإسلاميون»
والتكيّف مع ضغوط الواقع
بقلم: بسام ناصر
غالباً ما يصطدم أصحاب الأفكار والمبادئ بجدر واقعية مانعة، تحول بينهم وبين تطبيق رؤاهم وتصوراتهم، وتجبرهم في الوقت نفسه على التنازل عن بعض ما يرونه حقاً وواجباً، والقبول بصيغ وأشكال وممارسات لا يجدون في أنفسهم طاقة على ردها ورفضها، لأنها فرضت نفسها بسيف الواقع الضاغط، وصيرورته الحتمية وفق سياقاتها التاريخية، وشروطها الغالبة والحاكمة.
حين يتوقف الدارس عند المراحل التأسيسية الأولى في تاريخ المسلمين، يجد أن النظام السياسي الإسلامي مر بمراحل اختلفت فيها تجليات التطبيق بما يتوافق مع المبادئ والأصول الشرعية، بين مرحلة وصفت بالرشد والراشدة، وأخرى وصفت بالانحراف والخروج عن حدود القيم والمبادئ المميزة للصفة الإسلامية، في تمثلاتها النبوية والراشدة.
تمثلت المرحلة التأسيسية الأولى، في العهد النبوي الذي يعتبر النموذج الأسوة، ثم تلتها مرحلة «الراشدية» المشهود لها بالخيرية، المتقيدة بقيم الإسلام وأخلاقياته في الممارسة السياسية في غالب تجلياتها، ثم تحول ذلك النسق «الهادي والملهم» إلى نسق آخر في الحكم، غابت عنه الشورى، وتراجع دور الأمة في اختيار من يحكمها، ومبايعته له مبايعة حرة، لا إكراه فيها، إلى نسق ولاية المتغلب، وتوريث الحكم، وولاية العهد بما فيها من جبرية وإكراه، وخروج عن حد الشورى، واهدار حق الأمة في الاختيار وصناعة القرار.
تعددت التفسيرات والتأويلات في فهم سلوك الفقهاء الموافق للمتغلب في ولايته، والمشرعن لولاية العهد وتوريث الحكم، بين من يقول بخضوع الفقيه للسلطان، وموافقته على ما يريد، وتطويع الشرع وليّ أعناق النصوص لإضفاء الشرعية عليه، وبين من يقول إن الفقهاء لم يجدوا سبيلاً آخر يسلكونه، ولم تكن ثمة خيارات أخرى متاحة أمامهم، فتنازلوا عن «ولاية الأمة» حفاظاً على الدين والأمة معاً، فتلك الأنماط الدخيلة في الحكم (كسروية وقيصرية)، باتت أمراً واقعاً ليس بمقدورهم رفضه والتمرد عليه، في خضم الصراعات القائمة على السلطة حينذاك.
ثمة من يرى أن الشروط التاريخية لم تعد تسمح ببقاء نموذج الخلافة الراشدة، بعد التحولات السياسية والاجتماعية التي طرأت على الأمة الإسلامية نتيجة عوامل قاهرة، ما يعني أن المطالبة بالمحافظة على نمط الخلافة الراشدة (بقيمه المتميزة) لم يعد ممكناً من حيث قصور الواقع الجديد عن القيام بشروطه، واستيفاء مواصفاته.
ترتب على ذلك أن وجد الفقهاء أنفسهم أمام خيارات صعبة، إذ لا بدّ من سلطة سياسية تحمي الأمة من الضياع والتشتت والأخطار الداخلية والخارجية، وفي الوقت نفسه تقوم بالدين ولا تفرط فيه، وإن تقاصرت عن استجماع شروط ومواصفات نموذج المرحلة التأسيسية في جانبه السياسي والسلطوي.
إنها فلسفة المحافظة على المبادئ والقيم في وسط أجواء ملتهبة ومتغيرة وضاغطة، وهو ما تمر به كثير من الحركات الإسلامية السياسية هذه الأيام، بعد قلب ظهر المجنّ لها، باستبعادها من المشاركة في الحياة العامة، خاصة السياسية منها، والتضييق عليها، والسعي الحثيث لمحاصرتها ووأدها، فماذا بوسع تلك الحركات أن تفعل في ظل هذا الواقع المأزوم والمضطرب والقلق، والمعلن عن مناوأته لها، ومحاربته لوجودها؟
من المعلوم المقرر أن تلك الحركات (الإسلامية السياسية) لا تتبنى خيار المواجهة العسكرية، وفقاً لما هو مقرر في أدبياتها، والمعلن في تصريحات قادتها، ما يعني ضرورة تكييف أوضاعها بحسب شروط الواقع، والتكيف ضمن الهوامش التي تتيحها تلك الأنظمة، وهو ما يتطلب فهماً دقيقاً للمرحلة، وفقهاً واعياً وحكيماً لتسديد المسيرة وترشيدها، ومقاربة الحق، في ظل موازنات صعبة، ومعادلات معقدة ومتداخلة.
هنا تأتي أهمية المفكر الاستراتيجي الذي يمتلك القدرة على استشراف المستقبل، والتنبؤ بما قد يحدث، واعتماد الخيارات الأقل ضرراً وكلفة وخسارة، وهو ما يتطلب فقهاً استثنائياً يصير إليه الفقيه بحكم الضرورة والاضطرار، في مسلك يقارب ما عبر عنه سفيان الثوري بقوله «إنما العلم عندنا الرخصة في فقه، أما التشدد فكل أحد يحسنه».