بسام ناصر

 لا تجدي كثرة استحضار مفردات فقه الابتلاء كلما عصفت بالحركات الإسلامية العواصف الهوجاء هنا وهناك، فهذه طبيعة العمل الديني المقتحم لميادين السياسة، إذ غاية الممارسة السياسية التطلع إلى الإمساك بزمام السلطة، وهو ما يُدخل كل الفاعلين السياسيين في صراعات سياسية يستخدمون فيها كل الوسائل والأدوات الممكنة للتضييق على الخصوم ومحاصرتهم، خاصة في عالمنا العربي.
ولا يخفى أن الصراعات التي اشتعلت في بواكير التاريخ الإسلامي بين المسلمين لم تكن في أصل نشأتها صراعات دينية، بل كانت في غالبها سياسية، وبعبارة أكثر دقة صراعاً على السلطة، كما قال الشهرستاني «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان».
الحركات الإسلامية السياسية المتصالحة مع مجتمعاتها بأنظمتها السياسية القائمة، والتي تعتبر نفسها جزءاً من الأنظمة الحاكمة، وبعد قبولها بالعمل تحت مظلة الدساتير والقوانين النافذة، ليس في قاموسها الدعوة إلى التغيير الانقلابي الجذري، وهي على العكس من حركات التغيير الراديكالية التي تسعى للانقلاب على الوضع القائم، وتأسيس مشاريعها على أنقاض تلك الأنظمة، ما يعني بالضرورة إقرارها بشرعية القائم واعترافها به، وأن غاية ما ترجوه وتسعى إليه هو الإصلاح المتدرّج بما تمنحه لها تلك الأنظمة من هوامش في الفكر والحركة.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن على هذه الحركات تنظيم ممارستها السياسية بما يتوافق مع قواعد العمل الحزبي والسياسي، والخروج من طور الارتجالية والعاطفية، والتخلص من تعظيم دور القائد الفرد والرمز الفذ، إلى وضع لبنات مأسسة ممارستها السياسية بالانضباط التام بالقوانين واللوائح النافذة والمعمول بها، فهي حركات وجماعات ليست فوق القانون بحسب ما ارتضته في أصول فهمها وانطلاقتها.
وقد يكون مما يحتاج إلى توضيح وتقرير أن المشروعية القانونية لحركات العمل الإسلامي (المنظم والحزبي) في ظل الدولة المعاصرة لا تُكتسب من ربانية الدعوة، ليقال من بعدها إنها تستغني بربانيتها عن أي تراخيص قانوينة تمنحها لها وزارات الداخلية هنا وهناك كما هو مضمر في أوساط بعض الحركات والجماعات الإسلامية.
فالحركات الإسلامية السياسية كغيرها من الأحزاب الأخرى، تمارس السياسة وفق الأنظمة والقوانين المعمول بها في كل دولة تتواجد فيها، وما يميّزها عن تلك الأحزاب حملها لرسالة الإسلام بمبادئه وأخلاقياته، التي تمثل لها مرجعية دينية وأخلاقية تضبط حركتها في الأداء السياسي وفق قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد بحسب اجتهادات علمائها وفقهائها.
يحسن بالحركات الإسلامية السياسية في أجيالها الجديدة، وبحكم تغير المناخات والظروف المحلية والإقليمية والدولية، تطوير نظرتها للعمل السياسي من حيث الانضباط بالقوانين، والانعتاق من الارتجالية في الأداء إلى الصدور عن مخططات مبنيّة على دراسات رصينة، وتحليلات موزونة، تنتجها مراكز بحوث ودراسات خاصة بالجماعة، تقيها مزالق الاستدراج التي تُجر إليها بدهاء من قبل الأنظمة وخصومها السياسيين.
لا يسع الحركات الإسلامية بعد كل ما أصابها وألمّ بها من مصائب وفواجع، إلا أن تتيقظ لمواضع الخلل، ومكامن الضعف المتفشية في جسدها المنهك بالضربات الموجعة، فإما أن تُحْكم ممارستها للسياسة وفق شروطها وقواعد لعبتها، وإما أن تنأى عنها جانباً لتنخرط بكليتها في العمل الدعوي والتربوي الأجدى نفعاً والأكثر ثمرة.