العدد 1431 / 7-10-2020
محمد بوالروايح

لم يكن إيمانويل ماكرون قبل اعتلائه كرسي الإليزيه شيئا مذكورا في ميزان السياسة، بل كان شخصية مغمورة على خلاف من سبقوه من رؤساء فرنسا المخضرمين الذين عايشوا الجمهورية الخامسة التي أسسها شارل ديغول، واتخذوها فيما بعد مرجعية لهم في العمل السياسي.لا تختلف تجربة ماكرون السياسية القصيرة التي تقترب من العدمية عن تجربة سلفيه فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي، فهؤلاء مع مراعاة الفارق الزمني بينهم ينتمون إلى جيل سياسي متأخر مقارنة بسابقيهم.

لكن ما يميز ماكرون هو قدرته على الظهور والبروز على الساحة السياسية سريعا، بفضل الشعبية العريضة التي اكتسبها بعد تأسيسه لحزب "الجمهورية إلى الأمام”، الذي مكّنه من الارتقاء من القاعدة إلى القمة، من خريج المدرسة الوطنية للإدارة إلى رجل الإليزيه الأول الذي يتطلع إلى عهدة رئاسية ثانية، ليست مستبعدة بحسب استطلاعات الرأي، ولو أن بعض مناوئيه يرونها بعيدة في ظل الأزمات التي واجهها منذ البدايات الأولى لحكمه، والتي اشتدَّت بعد اندلاع ما يسمى بانتفاضة أصحاب "السترات الصفراء”.

لم يكن تصويت الجاليات المسلمة على وجه الخصوص لصالح ماكرون في انتخابات الرئاسة مبنيا على أسس إيديولوجية، بل على أساس المواطنة ومبدأ احترام قيم الجمهورية التي منها احترام ثقافة الآخر وعقيدة الآخر، وهو ما التزم ماكرون بتحقيقه بحذافيره من أجل الحفاظ –كما قال- على النسيج المجتمعي وعلى الطابع الجمهوري والديمقراطي لفرنسا، الذي وضعته الثورة الفرنسية وسار على منواله شارل ديغول ومن جاء بعده من القادة الجمهوريين الذين اتخذ منهم ماكرون قدوة تاريخية، مع اختلافه معهم في وسائل تحقيق القيم الجمهورية بانتهاج وسيلة التغيير والتجديد السياسي.

إن معرفة الخلفية السياسية لماكرون مهمة لمعرفة موقفه من الإسلام الذي عبَّر عنه في مناسبات كثيرة، آخرها تصريحه المثير للجدل بأن "الإسلام يواجه اليوم أزمة في كل العالم؟!” و”على فرنسا مواجهة الأصولية”، فهذا التصريح هو امتداد لتصريحات سابقة لماكرون حول ما سماه "الإسلام السياسي”، الذي أكد بأنه "لا مكان له في فرنسا”، وهو امتدادٌ أيضا لمقاربته السياسية القائمة على رفض الوصل بين الإسلام والإرهاب.

يجب ألا نتعامل مع تصريحات ماكرون بسطحية ظاهرة أو سذاجة سياسية أو أن نعتقد أنها جاءت عفوية، فهذه التصريحات إنما هي ترجمة للتحركات السياسية التي يقوم بها ماكرون في المنطقة العربية، والتي حملت رسائل سياسية موجَّهة إلى حلفائه التقليديين، وكذلك إلى القوة الإسلامية الناعمة والتنويرية –حسب تعبيره- التي يعول عليها لرأب الصدع والشرخ التاريخي بين الإسلام والغرب، وخاصة في ظل توترات عالمية على أكثر من صعيد، يمكن أن تؤثر في الدور الاستراتيجي للسياسة الفرنسية في الداخل والخارج.

لقد تعامل إيمانويل ماكرون بدبلوماسية عالية ولغة سياسية هادئة عند حديثه عن الإسلام، وذلك بفضل المحفزات الإقليمية والدولية، ومنها زيارته المثمرة –حسب تقديره وتقدير إدارته- إلى لبنان، التي حولته على الأقل في نظر بعض اللبنانيين إلى زعيم مخلِّص، يمكنه أن يخلّص لبنان من أزمتها وخاصة بعد حادثة مرفأ بيروت التي زادت الطين بلة، ومنها أيضا رسائل السلام التي يبادر بها ويباركها البيت الأبيض بين إسرائيل والدول العربية، ولو أن فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي لم تتحمس لها إلا في نطاق محدود، يتلخص في تشجيع قيم العيش المشترك ونبذ ثقافة الكراهية، ومنها، وهذا ما لم يرد ماكرون الإفصاح عنه، أن العالم الإسلامي يواجه ضعفا غير مسبوق، وهذا يمثل فرصة ذهبية لفرنسا وحلفائها لدفعه إلى قبول مبدأ التكيف مع التوجهات العالمية أو التلاشي المحتوم، وبقائه وحيدا من غير سند ولا مدد في معركته ضد الجماعات المتشددة.

إن تصريح ماكرون بأن "الإسلام اليوم يواجه أزمة في كل العالم؟!” مبنيٌّ على قناعته بأن من يمثلون الإسلام على كل المستويات لم يعد لهم أكثر من أي وقت مضى قبولٌ لدى الغرب لتمثيل العالم الإسلامي، وهذا يمثل فرصة ذهبية لفرنسا لتقدم نفسها على أنها البديل الذي لا مناص منه.

لقد تعرَّض الإسلام في تاريخه الطويل إلى هجمات كثيرة ووقع أتباعه في أزمات خانقة، ولكنه ظل طودا شامخا عصيا على خصومه وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولعل الإسلام الذي يتحدث عنه ماكرون ويدّعي أنه "يواجه أزمة في كل العالم؟!” هو الإسلام السياسوي الذي صُنع في مخابر الغرب، وليس الإسلام الحقيقي الذي يحمل في طياته قيم البقاء والارتقاء، الإسلام الذي خذله أهله، ولكنه سيبقى بحفظ الله وإخلاص البقية الباقية من العلماء العاملين عصيا على الاختراق، مهيمنا على الآفاق.

لنفترض جدلا أن مقولة ماكرون بأن "الإسلام يواجه اليوم أزمة في كل العالم؟!” صحيحة، لكن ماذا عن المسيحية واليهودية؟ إن العارفين بشؤون الأديان يقولون إن المسيحية واليهودية تعيشان أسوأ أيامهما، وأنه لم يعد لهما دورٌ في المجتمع الأوروبي والمجتمع العالمي، فقد توقف دور المسيحية على سبيل المثال في أفريقيا، ودخل الفاتيكان في مرحلة السبات العميق الذي لن يفيق منه إلا على وقع ارتدادات كثيرة عن المسيحية، التي فقدت هيبتها وقدسيتها ولم تعد تمثل بالنسبة لكثير من الأوروبيين شيئا مذكورا، بعد أن كانت في عهد سابق مناطا للتقديس.

حينما يقول ماكرون؛ إن الإسلام يواجه أزمة في العالم كله، فيحب ألا يهلل لذلك المسلمون؛ لأن الإسلام الذي يتباكى عليه ماكرون هو الإسلام التنويري الذي تمثله مؤسسة إسلام فرنسا التي يرأسها غالب بن الشيخ، والتي من أهدافها إيجاد إسلام فرنسي قائم على مبادئ الجمهورية الفرنسية، لا يلتقي مع الإسلام الحقيقي إلا في الشعائر الظاهرة، أما السياسات والتوجهات فمختلفة تماما وتحدَّد وفق الاجتهادات المعاصرة التي يدعي التنويريون أن المسلمين بحاجة إلى أن يستأنسوا بها، ويؤسسوا عليها إذا أرادوا حماية كينونتهم الدينية والاجتماعية من الزوال في ظل عولمة طاغية وعلمانية مهيمنة.

يجب ألا يستغرب المسلمون تصريح ماكرون بأن "الإسلام يواجه أزمة في كل العالم؟!” لأنه ما كان لماكرون ولا لغيره أن يقول ذلك لو أننا نحن المسلمين قمنا بواجبنا في الدفاع عن الإسلام، فالطبيعة لا تقبل الفراغ. لذا، فإن رسالتي إلى كل الدعاة في العالم، أن يرتقوا بخطابهم الدعوي وأن يكشفوا للعالم عن الدرر الثمينة والقيم الإنسانية النبيلة التي جاء بها الإسلام، القيم التي تدعو إلى تعارف الحضارات وإلى السلم العالمي وتنبذ ثقافة التعصب للجنس والعرق.

إن دعاتنا -إلا من رحم ربّك- لا يزالون يدورون في حلقة مفرغة، يركزون على الفروع ويهجرون الأصول، يستهدفون بدعوتهم الدائرة الضيقة في العالم الإسلامي، ويغفلون أو يتغافلون عن الدائرة الواسعة وهو المجتمع الإنساني، مع أن قرآنهم يأمرهم بذلك: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”. والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هنا الشامل الذي يشمل الإسهام في عمارة الأرض وتأمينها من كل شرّ محتمَل أو خطر، منتظر من قبيل الحروب المدمرة التي يفرضها الأقوياء على الضعفاء، تحت ذريعة تأمين البشرية ومحاربة ما يسمونه زورا وبهتانا "الإرهاب الإسلامي” في المقام الأول.

 

 

 

ماكرون وديننا "المأزوم".. وسواه أيضا.. من المسؤول؟

ياسر الزعاترة

لا تتوقف خطابات ماكرون ومساعديه المستفزة لجمهور المسلمين، بخاصة حديثهم المتكرر عن "الإرهاب الإسلامي"، و"التطرف الإسلامي"، مع أن عاقلا لا يقول إن الأقلية المسلمة في فرنسا تمثل تهديدا حقيقيا للدولة.

حين يصل الحال به حد القول إن "الإسلام ديانة تعيش أزمة في كل مكان في العالم"، فقد بلغ من الوقاحة مبلغا لم يصله أي زعيم غربي قبله.

ولا يتوقف الأمر عند الخطب والتصريحات، بل يشمل مختلف الإجراءات اليومية التي تمثل تطرف العلمانية ضد كل المظاهر الإسلامية، والتي تعتدي حتى على الحرية الشخصية التي تتبناها الدولة. وها هو يطرح قبل أيام خطة لمواجهة "التطرف الإسلامي"، كأنما هو "تسونامي" يتهدد البلاد.

بالمقابل يذهب وزير داخليته إلى "كنيس" يهودي، ويشهد احتفالا بما يسمى "عيد الغفران"، وهو احتفال ديني بطبيعة الحال، فيما تقوم الدنيا ولا تقعد إذا كتب أحدهم شعارا "معاديا" على حائط مقبرة يهودية.

يحدث ذلك في ظل هوس جديد تلبّس ماكرون في الآونة الأخيرة، يتعلق بالبحث عن أدوار في المنطقة، وقد تابع الجميع منطق الوصاية الذي تعامل من خلاله مع لبنان، وزيارته بعد ذلك للعراق، وتدخلاته في ليبيا، بجانب نشاطاته المتواصلة ضد تركيا في أكثر من ملف، وتحريضه عليها في الاتحاد الأوروبي، والذي لا يبتعد أبدا عن هوسه التقليدي بالحرب على الإسلام.

المصيبة أن ذلك يحدث في ظل هستيريا تمثلها أنظمة "الثورة المضادة" ضد ما يسمى "الإسلام السياسي"، الأمر الذي يشجّعه على المزيد من الغطرسة، لا سيما أن تلك الأنظمة قد باتت تضع تركيا في مقدمة الاستهداف، بحسبانها على "الإسلام السياسي"؛ ومواقفها ضد تركيا في ملف الصراع مع اليونان خير دليل على ذلك، وقبله الموقف من الملف الليبي، والتدخل التركي هناك، والذي لا يتوقف أمين عام الجامعة العربية عن إدانته، مقابل تشجيع التطبيع والصمت على الغطرسة الصهيونية.

ليس من العسير القول إن ماكرون هو المأزوم، وليس الإسلام، وهذه الهجمة المتواصلة عليه أكبر دليل، فلا أحد يضرب في جسد ميت.

المأزوم هو ماكرون، وكذا دولته التي تبدو مثل عجوز تتغنى ببابها، وتتجاهل معطيات الواقع، وتحوّلات الزمن، ولا شك أن محاولاته لتجديد شبابها ستبوء بالفشل. بل إن أوروبا "القارة العجوز" تعيش ذات الأزمة أيضا.

يصل بنا ذلك كله إلى مسلسل الاستهداف الذي يتعرّض له المسلمون كما لم يحدث في أي مرحلة سابقة، والذي تشترك فيها القوى الأربع الكبرى (للمفارقة)، وهي أمريكا والصين وروسيا والهند.

كل هؤلاء يستهدفون الإسلام والرموز الإسلامية والأقليات الإسلامية، الأمر الذي يُواجَه بالصمت من قبل الأنظمة العربية والإسلامية أحيانا، وبالتشجيع أحيانا أخرى، كما يحدث فيما تفعل الصين مع "الإيغور"، وما يفعله بوتين في سوريا، وما يفعله المتطرف مودي ضد المسلمين في الهند، ولا تسأل قبل ذلك وبعده عن سائر المواقف التي تبناها ترامب ضد المسلمين داخل أمريكا، بجانب استفزازهم في قضية القدس والصراع مع الكيان الصهيوني، وهو ذاته لا يتوقف عن استخدام مصطلح "الإرهاب الإسلامي".

بدأنا بماكرون لأنه الأسوأ في المرحلة الأخيرة، ولأنه يبحث عن دور، ليس بمنطق النفوذ، بل بمنطق الاستعمار القديم، وغطرسته التقليدية.

أما الآخرون، فيبني أكثرهم مواقفه بحسابات محلية، الأمر الذي لا يتوفر في حالة ماكرون، كما قلنا من قبل، لأن الأقلية المسلمة في فرنسا لا تمثل أي تهديد للدولة، كما أن تدخلاته الأخرى هي لون من السلوك المتغطرس، كما هو الحال في لبنان.

أيا يكن الأمر، فما يجري في كل الحالات التي تحدثنا عنها إنما يتعلق بحالة بؤس غير مسبوقة يعيشها الوضع العربي والإسلامي، وبخاصة الوضع العربي الذي تتصدره أنظمة "الثورة المضادة" التي تغري كل أولئك بمزيد من الاستخفاف بالمسلمين ومشاعرهم، لا سيما موقفها ما يسمى "الإسلام السياسي"، وحديثها السخيف عن "تجديد الدين".

لم يحدث مثل ذلك منذ عقود طويلة، والسبب أن حجم التناقضات والصراعات في المنطقة، بين هوس "الثورة المضادة" من جهة، وهوس التمدد الإيراني من جهة أخرى، ما زال يغري كل أولئك بالغطرسة، بل يضع الحبّ صافيا في طواحينهم، رغم ما بينهم من تناقضات.

هل سيستمر هذا الوضع طويلا؟

الحق أنه سيستمر ما تواصل الحريق الإقليمي الراهن، وإن كانت هناك فرصة لبعض التغيير إذا احتدم الصراع أكثر فأكثر بين القوى الأخرى، وصارت بعضها في حاجة إلى كسب المسلمين إلى جانبها، كما حدث إبان الحرب الباردة.

ويبقى أنه من دون حلٍّ إقليمي يوقف النزيف الراهن، فسيبقى الوضع سيئا على المسلمين في كل مكان، بما في ذلك أقلياتهم في العالم أجمع.

كل ذلك لا ينبغي أن يوقف نشاطات المسلمين الشعبية السلمية ضد كل أشكال استهدافهم، ويشمل ذلك مطاردة أحلامهم التي طرحوها خلال الربيع العربي، بجانب تضامنهم مع بعضهم البعض داخل العالم الإسلامي وخارجه، بما هو متاح، ولو بالكلمة، أو أي شكل من أشكال المساعدة الأخرى.

ولا شك أن فلسطين قد تكون قاعدة وحدة للمسلمين، بما هي عنوان لذلك، وقضية مركزية للأمة، إلى جانب دور الصهاينة المعروف في تصعيد التناقضات البينية في المنطقة.

ماكرون.. وأسوأ تصريح في أسوأ توقيت حول الاسلام في فرنسا والعالم

هشام الحمامي

تلميذ الفيلسوف الفرنسي الشهير بول ريكوار (1913- 2005م) قرر أن يستخد طريقة "البوق المقلوب"، كما يقولون، في تعامله مع الإسلام والمسلمين في فرنسا (ستة ملايين مسلم في فرنسا)، وهي الطريقة المعروفة بالذهاب من أوسع نطاق إلى أضيق نطاق في تعاملك مع موضوع ما.

فيوم الجمعة الماضي 2 تشرين الأول أدلى بتصريح خطير وغريب وذهب فيه بعيدا عن أرض الموضوع الذي كان يتحدث فيه أصلا، وقال إن الإسلام يعيش أزمة في كل مكان بالعالم، وإن كان ثمة أزمة في فرنسا فهي إحدى انعكاسات أزمة كبرى يعيشها الإسلام في العالم كله.

الحديث المعتاد من المسؤولين الفرنسيين في الماضي كان عن الجماعات المتشددة والجماعات المتطرفة والتنظيمات الارهابية وما إلى ذلك، أما الآن فالمشكلة مع/ وفي الإسلام نفسه.

لم يكن هذا هو الهجوم الأول من ماكرون على المسلمين لكنه بالفعل الأشرس والأوقح، إذ لم تعد المشكلة في تطبيقات وممارسات خاطئة (كما يذهب ماكرون)، بل في خلل متأصل يجعل من الإسلام ماكينة إنتاج تاريخية ضخمة للتشدد والتطرف، وخطرا يهدد المجتمعات ويمزقها.

استراتيجية ماكرون وأسلوب تفكيره ومقارباته للأمور علق عليها جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في إدارة ترامب في كتابه (الغرفة التي شهدت الأحداث) الذي صدر في كانون الثاني الماضي، يقول بولتون: "ماكرون رجل ذكي ويتبع طريقة آيزنهاور الذي كان يقول: عندما تواجه مشكلة لا يمكنك حلها، وسع نطاقها. ويبدو لي أن هذا ما يفعله ماكرون". وذكر نقاشهم حول الاتفاق النووى الذي أبرمه أوباما وحاول ماكرون ثني ترامب عن قرار الانسحاب منه، وهو الاتفاق الذي وصفه ماكرون بأنه غير كاف، لكنه طلب من ترامب الإبقاء عليه، والتفاوض على اتفاق "أوسع نطاقا" يشمل البرنامج النووي الإيراني الآن، والبرنامج النووي الإيراني غدا، وبرنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، والسلام والأمن الإقليميين.

يقولون أيضا إن ماكرون مغرم بفكرة إعادة التأسيس (ترك الحزب الاشتراكي وأسس حزبا جديدا)، وسنراه يتقدم إلى الجمعية الوطنية بمشروع قانون جديد يعمل على تعزيز العلمانية وترسيخ مبادئ الجمهورية، وذلك بعد 115 عاما على إقرار قانون 1905 الشهير (قانون فصل الكنيسة عن الدولة)، وسنراه أيضا يدعو إلى إعداد ما سماه "ميثاقا علمانيا" توقع عليه الجمعيات الإسلامية المعترف بها من الدولة.

سوء التوقيت في تصريح ماكرون لا يتصل فقط بالصعود السياسي والفكرى لليمين المتطرف في الغرب، بل في سياق تأزم العلاقة مؤخرا مع تركيا، الخصم التاريخي والحضارى لأوروبا كلها. وما اللغة التي نسمعها من الاتحاد الأوروبي في تعامله مع أزمة شرق المتوسط إلا اتصالا بهذا التاريخ الطويل القديم، وسنرى ماكرون أكثر الأصوات صخبا في مثل هذا الحديث.

وما هو أكثر حساسية في الموضوع أن الحضور التركي المتمدد في أفريقيا يتصل بالإسلام، وما أدراك ما الإسلام وما يمثله من عمق اجتماعي وتاريخي في هذه القارة الوادعة.

الآن وقد سمعنا تصريح وزير الاقتصاد الإيطالي لويجي دي مايو الذي وصف فرنسا بأنها "ذبابة أخرى تمتص أفريقيا"، وطالب الاتحاد الأوروبي بمعاقبة فرنسا لأنها تدفع الأفارقة إلى الفقر.

الجالية المسلمة في فرنسا اعتبرت تصريحات ماكرون استهدافا مباشرا لها ولدينها دون غيره من الأديان، ويرون أن كلامه لا يتصل بالإرهاب بقدر اتصاله بالسياسات الفرنسية التقليدية في الهيمنة الثقافية واحتلال دماغ الآخر (كما ذكرت سابقا)، وهو ما أسماه الفيلسوف الفرنسي أدجار موران (97 عاما) بالوصمة التاريخية الكبرى لتجربة الهيمنة: الاستعمار، العبودية، استنزاف الثروات.. الخ.

الهيئات والجمعيات الممثلة للمسلمين عبرت عن تخوفها الشديد من انتشار خطاب الكراهية ضد المسلمين في المجتمع الفرنسي، واستسهال البعض والذهاب للخلط بين الدين الإسلامي وتصرفات المتطرفين، وهو ما دعا رئيس جمعية مسلمي فرنسا لرفض تصريحات ماكرون قائلا: أنا لا أتفق مع هذا الخطاب على الإطلاق، كان بإمكانه التحدث عن التطرف أو الأصولية، لا يمكن لأحد أن يصم جميع المسلمين بالتطرف.

فَضيلة شيخ الأزهر أ.د. أحمد الطيب عبر عن استنكاره وغضبه الشديد من هذا الوصف، وقال دون أي إشاره إلى من قاله: إصرار بعض المسؤولين في دول غربية على استخدام مصطلح "الإرهاب الإسلامي" غير منتبهين لما يترتب على هذا الاستخدام من إساءة بالغة للدين الإسلامي والمؤمنين به، ومن تجاهل معيب لشريعته السمحة وما تزخر به من مبادئ، وطالب عقلاء الغرب من مسؤولين ومفكرين وقادة رأي بضرورة الانتباه إلى أن إطلاق تلك المصطلحات المضللة لن تزيد الأمر إلا كراهية وتعصبا وتشويها لمبادئ الأديان السمحة؛ التي تدعو في حقيقتها لنبذ العنف والحث على التعايش السلمي بين الجميع.

ونختم بكلام مهم وقوي للفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري (61 عاما) الذي يذكر دائما في أحاديثه أن الغرب هو الذي صنع العنف، وزرع بذور الحرب على الإسلام والجماعات، بل ويذهب بعيدا في تنظيره للثقافة والفكر الغربي متوقعا بأفول عصر الحضارة الغربية التي وصلت لمرحلة من الإعياء كافية لزوالها تماما، إن لم تكن قد بدأت بالفعل بالزوال.

لكن أجمل وأروع ما قاله هو هذه الكلمات التي يطيح فيها بعيدا بكلام ماكرون، إذ يرى أن أقرب بديل للحضارة الغربية (الزائلة قريبا) هو الحضارة الإسلامية، فهي تمتلك كل المقومات اللازمة لتحل محلها: فهي تمتلك ديانة عالمية، لديها فكر مفارق شديد الحيوية وهو الإسلام، والمقوم الأخير والأكثر أهمية وقوة؛ هو تلك الروح المتوهجة التي تتمثل في أبنائها واستعدادهم للموت بسهولة في سبيل قيمهم.