العدد 1693 /10-12-2025
علي أنوزلا
يطل زعيم حزب العدالة والتنمية، عبد الإله
بنكيران، في جولاته عبر مناطق مختلفة من المغرب، متكئاً على عصاه وقد بلغ سن
الحادية والسبعين، مخاطباً جمهوراً ما زال يرى فيه رمزاً من رموز مرحلة سياسية
مضطربة. يكرّر الرجل في كل لقاء تقريباً الحكاية نفسها يروي كيف "أنقذ"
البلاد من رياح "الربيع العربي"، وكيف واجه "العفاريت
والتماسيح"، وكيف كان وحده صمّام أمان الدولة حين كان رئيساً للحكومة.
مونولوغ طويل يتخلله ضحك وقفشات وتعابير عامية وتشبيهات حيوانية واستعارات من "كليلة
ودمنة"، يمزج بين السرد الشخصي والنكتة والسياسية، وما بين لحظات جادة وأخرى
ساخرة يتداخل فيها التهكم بالتبرير، والذاكرة الشخصية بخطاب سياسي عاطفي ومؤثر، في
خليط يجعل المستمعين في لحظات معينة غير متأكّدين مما إذا كان أمامهم رجل دولة
سابق، أم معارض يلمّح برسائل مشفّرة، أم سياسيّ شعبوي يستعيد صدى زعامته بأسلوب
استعراضي. لكن خلف هذا المشهد يتوارى سؤال أكبر وأكثر عمقاً: هل ينبغي إعادة الثقة
بحزب العدالة والتنمية في الاستحقاقات المقبلة؟ وهل ما زال الحزب قادراً على تقديم
عرض سياسي قابل لإعادة الاعتبار بعد الفشل الذي مني به حين قاد الحكومة طيلة
ولايتين متتاليتين؟
تتطلب الإجابة قدراً من الموضوعية الفكرية
والابتعاد عن الأحكام الجاهزة. فالحزب الذي قاد ولايتين حكوميتين، وتصدر المشهد
السياسي عقداً كاملاً تقريباً، لم يكن مجرد قوة انتخابية عابرة، بل شكّل تجربة
سياسية مهمة في تاريخ المغرب الحديث. وكان من المنتظر أن تكون هزيمته في انتخابات
2021 لحظة تأسيس لوعيٍ جديد داخله، وأن تتحول النكسة لى دعوة صريحة للنقد الذاتي
وتفكيك أسباب السقوط، كما تفعل الأحزاب الحديثة التي تراجع خياراتها بجرأة
وشفافية، تُقيّم أخطاءها، وتُوضح قراراتها التي تثير الجدل، وتعيد بناء الثقة مع
المواطنين عبر خطاب جديد ووجوه جديدة وأسلوب جديد. لكن ما حدث مع "العدالة
والتنمية" كان مختلفاً، لم يقدم الحزب نقداً ذاتياً واضحاً، ولم تُطرح داخل
أجهزته أسئلة حول الخيارات الاقتصادية الصعبة التي اتخذتها حكومته، ولا حول
الطريقة التي دُبّرت بها الملفات الاجتماعية الحساسة، ولا حول أسباب التراجع
التنظيمي والانتخابي الكبير الذي عرفه الحزب بعد خروجه من السلطة.
ثم إن الحزب، بعد خروجه من الحكومة، عرف نزيفاً
تنظيمياً غير مسبوق، غادره كثيرون من أعضائه، بينهم وزراء وقياديون بارزون، من دون
أن يقدموا توضيحات للرأي العام حول أسباب انسحابهم، أو يكشفوا عن الأخطاء التي
شهدوها من الداخل، ودون أن يسأل الحزب ذاته لماذا يفقد كفاءاته. هذا الصمت الجماعي
يكشف أن الحزب لم يعد فضاءً للنقاش الداخلي أو التعددية الفكرية، بل تحول إلى بنية
مغلقة تُعاد فيها صناعة الولاء أكثر مما يُعاد فيها إنتاج الأفكار، حتى تحول إلى
"زاوية"، كما يصفه بعض منتقديه.
وبعد أربع سنوات على هزيمته المدوية، ورغم
الانهيار غير المسبوق في حضوره المؤسّساتي وخسارته لقاعدته الانتخابية والتنظيمية،
يعود الحزب اليوم إلى المشهد السياسي المغربي بخطاب يكاد يكون نسخة طبق الأصل من
خطاب ما قبل الهزيمة. وكأن التجربة الحكومية الطويلة لم تقع، وكأن القرارات غير
الشعبية التي أسقطته لم تُتخذ، وكأن الغضب المجتمعي الذي ترجم نفسه في صناديق
الاقتراع لم يكن سوى سحابة عابرة. على العكس تماماً، بدا الحزب وكأنه اختار
استراتيجية الهروب إلى الأمام بدل تحمل المسؤولية، وقرر إعادة تدوير الزعامة بدل
تجديدها، واستعاد الشعارات القديمة نفسها بدل إنتاج برنامج سياسي جديد، وتمسك
بالخطابات نفسها التي فقدت كل قدرتها على الإقناع.
أما زعيمه بنكيران، الذي يشكل اليوم أكبر صوت
داخله، فلم يتعامل مع اللحظة بوصفها فرصة للمراجعة، بل بوصفها مناسبة لإعادة ترسيخ
نمط قيادي اعتاد توظيف السخرية واللغة الشعبوية، مع قدر كبير من العاطفة السياسية
وقليل جداً من الأفكار. فبينما ينتظر المواطنون أجوبة حول التعليم والصحة والقدرة
الشرائية والضرائب، يقدّم بنكيران خطابات طويلة، تُبنى على الارتجال أكثر مما
تُبنى على الرؤية، وعلى الانفعال أكثر مما تُبنى على التحليل، وعلى شخصنة النقاش
أكثر مما تُبنى على البرامج. والمفارقة أن الرجل لا يزال يصرّ على الافتخار بالقرارات
غير الشعبية التي اتخذتها حكومته حين كان رئيساً للسلطة التنفيذية، مثل تحرير
أسعار المحروقات، وتجميد التوظيف في بعض القطاعات، واعتماد التعاقد في التعليم،
والتطبيع مع الفساد، والرفع من المديونية الخارجية، كلها ملفات تسببت في غضب الناس
من الحزب وأخرجت أكبر موجات الاحتجاج ضده خلال العقد الأخير. ورغم ذلك، لا يظهر في
خطاباته اليوم ما يشير إلى رغبة في مراجعة شكل تلك الإصلاحات أو طريقة تمريرها أو
آثارها الاجتماعية. بل يردّد بنكيران، في نوع من التحدي، أنه لو عاد إلى الحكومة
لاتخذ الإجراءات نفسها. إن هذا الإصرار على تجاهل الألم الاجتماعي الذي خلّفته تلك
القرارات، يقدّم جواباً مباشراً لمن يسأل هل تنبغي إعادة الثقة في الحزب أم لا.
وعلى مستوى الهوية السياسية، يعيش الحزب إحدى أعقد
أزماته، منذ توقيع زعيمه السابق على اتفاقات التطبيع مع إسرائيل، ومع ذلك لم يبادر
إلى فتح أي نقاش داخلي حول الموضوع بقدر من الصراحة والجدّية المطلوبين، كما لم
يقدّم تفسيراً مقنعاً لمغاربة، أو اعتذارا لهم، ولم يشرح كيف انتقل من خطاب
"المبادئ" إلى خطاب "الإكراهات"، لأن تبرير الخطأ بالظروف
التي أحاطت به، بمثابة زلة أكبر من عذر، ومن يخون مبادئه مرة واحدة يمكن أن يخونها
عدة مرات. أما استمرار الصمت، أو بالأحرى التهرّب، فقد زاد من زعزعة ثقة المواطنين
في مدى قدرة ثباته على خطه السياسي عند لحظات الاختبار الكبرى، وكلما استمر عناده
على رفض تقديم الاعتذار سيكون ذلك مكلفا له مستقبلا لأنه يعطى الانطباع بأنه يفضل
تجنّب المواجهة مع قواعده والمتعاطفين معه على تحمل المسؤولية أمامهم.
وعلى مستوى الخطاب السياسي، ما زال الحزب يؤسّس
خطابه على منطق المظلوميّة، يكرّر أن "التحكم" هو ما أسقطه، وأن
"الدولة العميقة" لم تمنحه فرصته كاملة، والحال أن حزباً قاد حكومتين
متتاليتين، وتوفرت له أغلبية برلمانية مريحة، وحكم كبريات المدن، وصادق على أهم
الخيارات الاقتصادية، لا يمكنه أن يقدّم نفسه بعد عقد في السلطة ضحيتها. في
السياسة، تُقاس الأحزاب بما أنجزته، لا بما تدّعي أنها كانت ستنجزه لو لم تمنعها
قوى غامضة من ذلك. ليس منطق المظلومية فقط تعبيراً عن ضعف التعبئة الفكرية، بل هو
أيضاً هروب من مسؤولية تاريخية تجاه المواطنين، فالأحزاب التي تعجز عن مواجهة
قواعدها بالحقيقة تعتبرهم مجرد أرقام انتخابية لا شركاء سياسيين!
مقابل كل هذه الملاحظات، ما زال "العدالة
والتنمية" يحتفظ بقدرة تنظيمية معتبرة وبحضور إعلامي قوي، إلا أن هذا الرصيد،
مهما كان حجمه، يحتاج إلى تجديد في الفكرة والخطاب، والقيادة، قبل طرح سؤال تجديد
الثقة. والجواب الموضوعي على هذا السؤال أن الثقة تُبنى على التغيير لا على
الاستمرارية، وعلى الاعتراف بالأخطاء لا على إنكارها، وعلى تقديم بدائل سياسية
وليس فقط نقد الخصوم السياسيين. وحتى الآن، لم يقدم الحزب ما يكفي ليبرهن أنه في
طريق مراجعة حقيقية، أو أنه يستعد لتجربة جديدة تختلف عن تجربته السابقة، فهو لم
يقدّم برنامجاً اقتصادياً أو اجتماعياً واضحاً، ولم يطرح رؤية جديدة للتعليم أو
الصحة أو العدالة الاجتماعية، ولم يُعد النظر في أخطاء حكومتيه، ولم يجدد نُخبه،
ولم يوضح علاقته بالقضايا الكبرى التي شكلت جزءاً من سقوطه.
الأحزاب التي تستعيد ثقة الشعوب بعد الهزائم هي
الأحزاب التي تعترف بأخطائها، تجدّد نخبها، وتعيد بناء رؤيتها، أما تلك التي ترفض
النقد الذاتي، وتتصرف كما لو أن الهزيمة حدثت بسبب خطأ الآخرين لا خطأ الذات،
فإنها لا تفقد فقط مصداقيتها، بل تفقد أيضاً قدرتها على فهم الواقع المتغير،
والمجتمعات، مثل الأفراد، لا تمنح فرصاً جديدة لمن يكرّر الأخطاء نفسها.