العدد 1414 / 20-5-2020

بقلم : حسان زهار

ظلت الجزائر تشعر أنها مكبّلة في الموضوع الليبي، بسبب إكراهات دستورية تمنع الجيش الجزائري من التدخل خارج الحدود الوطنية. ويبدو أن صانع القرار الجزائري أدرك ضرورة أن تكون للجزائر كلمتها داخل الجارة الشرقية، وقد امتد الحريق الليبي إلى أطراف حدودها، فعمد إلى طرح مسودة التعديل الدستوري للنقاش المجتمعي، كان من ضمن أبرز بنودها الجديدة ما يسمح لأول مرة بإرسال وحدات من الجيش الجزائري خارج البلاد.

هذا الشعور الجزائري بالقيد الدستوري زاده شعور آخر بالغبن، وقد تحوّلت الأرض الليبية التي ترتبط بالجزائر ارتباطا تاريخيا عميقا إلى مرتع لمرتزقة العالم، ولتدخلات دولية وإقليمية، خصوصا من دول عربية ليست بحجم الجزائر، وتبعد عن ليبيا آلاف الكيلومترات، ومع ذلك صارت لها كلمتها المسموعة، بينما ظلت الجزائر، القوة الإقليمية والجارة التي تحفظ أفضال الشعب الليبي على ثورة الجزائر المجيدة ضد الاستعمار، خارج الحسابات تقريبا، على الرغم من عودتها الدبلوماسية أخيرا، بعد انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، ومشاركتها في 20 كانون الثاني الماضي في مؤتمر برلين بشأن الوضع الليبي.

يبدو أن هذا الوضع غير الطبيعي حفّز منظومة الحكم الجديدة المنبثقة عن انتخابات كانون الأول 2019، بعد أن تخلصت، عبر حراك شعبي غير مسبوق، من دائرة الجمود البوتفليقي التي شلت البلاد ومؤسسات الدولة سنوات طويلة بفعل مرض الرئيس السابق، إلى محاولة الخروج من القيد الدستوري، الذي ظل، عقودا طويلة، يمنع الجزائر من التدخل في النزاعات الدولية والإقليمية، عبر طرح بند أو مقترح إمكانية إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج في الدستور الجديد، وهو المقترح الذي أثار وما يزال نقاشات حادّة، بين مرحب ومعارض، على اعتبار أنه سيخرج الجزائر من عزلتها المفروضة، ومن سلبيتها تجاه القضايا الإقليمية المتعلقة بالأمن القومي كما يقول المؤيدون، أو أنه، بالنسبة للمعارضين، سيعطي إشارات خاطئة للقوى الإقليمية والدولية التي تريد أن توظف الجيش الجزائري وفق أجنداتها الخاصة، وبالتالي كان من الواجب السكوت عن إدراج هذه النقطة في الدستور مع ترك السلطة التقديرية لفعل ذلك للمجلس الأعلى للأمن في الجزائر، وفقا لما تقتضيه المصلحة الوطنية.

وعندما بدأت الجزائر تجد شيئا من استقرارها، إثر تمكّنها من انتخاب رئيس جديد، على الرغم من كل المؤاخذات التي يمكن تسجيلها على ذلك، كانت مشاركتها في مؤتمر برلين عن القضية الليبية أشبه بالمعجزة، فليس للجزائر، الدولة الكبيرة المجاورة لليبيا، ما تفعله ضمن "جمهرة المتدخلين"، إلا أن تصوغ خطابا أخلاقيا عن السلم وعودة الحوار بين الفرقاء. ولكن ما إن تحدّث الرئيس تبون، بعد أن اشتدّت هجمة الحفتريين على العاصمة طرابلس بداية العام 2020، وقال بشكل واضح إن "طرابلس خط أحمر نرجو أن لا يجتازه أحد"، حتى علت التعليقات الساخرة، من داخل الجزائر قبل أن تأتي من خارجها، فبأي قوةٍ سيمنع الرئيس الجزائري الجديد الجنرال حفتر من تدمير طرابلس أو اجتياحها، وهي التي تعد، عند خبراء استراتيجيين عديدين في الجزائر، خط الدفاع الأول عن مدينة ورقلة الجزائرية المتاخمة للحدود الليبية، في وجه منظومة الثورة المضادة التي تقودها الإمارات والسعودية؟

وهنا انتبه صانع القرار الجزائري إلى استحالة استمرار حالة الشلل الجزائري تجاه المعادلة الليبية. صحيح أن الجزائر تمتلك أوراقا ضخمة تخص علاقاتها القوية مع القبائل الليبية، وهي قادرة على إدارة ملف التحالفات مع تلك القبائل، خصوصا في منطقة الغرب الليبي، إلا أن انعدام قوة "عملياتية" على الأرض، مهما كان شكلها، بمقدورها أن تؤثر في سير المعارك، بات العائق الأكبر لكي تصبح جملة "طرابلس خط أحمر" ذات مدلولات على أرض الواقع. ويبدو أن مسوّدة الدستور التي تضمنت، لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة، إمكانية إرسال وحداتٍ من الجيش إلى الخارج، أرادت الإجابة بوضوح عن كل تلك الهواجس، وأن كلام الرئيس الذي كان في شكل تحذير شديد اللهجة لحفتر، ولداعميه من ورائه، سيجد مغزاه في الوثيقة الدستورية التي يتم التحضير لها حاليا.

الآن، تبدو الكرة في مرمى الشارع الجزائري ونخبه وهي تناقش مسودة الدستور الجديد، هل ستبقي على بند إرسال وحدات عسكرية إلى خارج البلاد ضمن التعديلات المقترحة، أم يتم حذفه، والراجح أن البند الجديد ما وُضع إلا لكي يبقى، وهو إذا ما تأكّد سيقلب المعادلة الليبية رأسا على عقب، في غير ما تشتهيه رياح سفن الجنرال الواهم، بأكثر ربما مما قلب تلك المعادلة، دخول العامل التركي نفسه.