العدد 1428 / 16-9-2020
جعفر عباس

أخذ العالم كله علما بالوضع الإنساني المؤلم الذي يعيشه ملايين السودانيين بسبب الفيضان العرِم، الذي اكتسح المدن والقرى وسبب دمارا وخرابا هائلين. وبالنسبة للعالم الخارجي فإن الجاني هو نهر النيل، وما لا يعرفه كثيرون هو أن هناك عددا كبيرا من الأنهار في السودان تشكل نهر النيل، فعند الخرطوم يلتقي النيل الأبيض القادم من كينيا ويوغندا، بالنيل الأزرق القادم من الهضبة الأثيوبية، والنيل الأبيض يتغذى من عدة أنهار أهمها بحر الجبل (في السودان يسمى النهر بحرا) وبحر الزراف وبحر الغزال والسوباط وعشرات الأنهار الموسمية، وبعد اندماج الأزرق والأبيض ليشكلا "النيل" عند الخرطوم، يتجه النهر شمالا ويستقبل نهر عطبرة القادم من إريتريا على بعد 300 كيلومتر إلى شمال الخرطوم، وبموازاته أنهار موسمية هي الدندر والرهد وبركة والقاش.

في التاريخ القريب هاج النيل وزمجر ودمر البيوت والزرع والضرع مرتين قبل العام الجاري: في عامي 1946 و1988، أي بفاصل اثنين وأربعين عاما بينهما، وبفاصل اثنين وثلاثين عاما بين آخر فيضانين استثنائيين، أي أن أنهار السودان خرجت عن مجاريها بشكل يسبب الخطر فقط ثلاث مرات في اثنتين وسبعين سنة، ولو كانت للقائمين على أمور الحكم في السودان على مر العقود رؤى وخطط واستراتيجيات لاحتواء الفيضانات والاستفادة من الفائض الموسمي من المياه، لما تحولت النعمة إلى نقمة، علما بأن السماء تجود على السودان سنويا بـ 400 مليار متر مكعب من المياه تذهب هباء لعدم وجود أية مشاريع لحصاد المياه، بالرغم من الأقاليم التي تحظى بالنصيب الأكبر من الأمطار، هي حيث يعيش زهاء 120 مليون رأس من الماشية، فيضطر الرعاة إلى النزوح بها شمالا وجنوبا بعد فصل الخريف بحثا عن الكلأ والماء.

كل هذا الخير العميم من المياه لا يروح فقط هباء لعدم وجود مواعين لاحتوائه والاستفادة منه، بل يتحول إلى بلاء عظيم، في بلد يعمل أكثر من 80% من أهله بالزراعة بشقيها النباتي والحيواني، وثلث مساحته البالغة 1,886,068 كيلومترا مربعا صالحة للزراعة، بينما هناك أكثر من أربعين مليون فدان (الفدان= 4200 متر مربع) صالحة للرعي الموسمي والمستدام.

وبينما تفيد جميع المؤشرات بأن الحروب واسعة النطاق المقبلة ستكون للتكالب على مصادر المياه الصالحة للشرب والزراعة، لأن الخطر المحدق والمؤكد الذي ينتظر البشرية هو شح الغذاء، يتحول الماء في السودان إلى مصدر للخطر، وليس هنا لأن الشيء إذا فات حدَّه انقلب إلى ضده، ولكن لأن الشيء هنا (النيل) عانى من التعدي على حدِّه، بعد أن عمدت الحكومات المتعاقبة إلى تحويل الأراضي الزراعية المُشاطئة للنيل إلى مناطق سكنية، وتم بذلك حرمان النهر من سهولة الفيضية الطبيعية، فصار كلما اختنق بالماء، سرب قسما كبيرا منها إلى سهوله المغتصبة فكان الدمار والعويل والنواح.

حصاد الهشيم

ما يعانيه السودانيون هذه الأيام من هلاك البشر والماعز والبقر ودمار المساكن هو حصاد الهشيم الذي تسبب فيه غياب الرؤية الاستراتيجية للنهوض بالزراعة والثروة الحيوانية باستغلال سخاء السماء، لأن منشأ العلة في السودان كما في جيرانه هو أن الحاكمين والمتكالبين على كراسي الحكم ليسوا معنيين بكيف يكون الحكم بل لمن يكون الحكم، ومن ثم فإنهم وهم في السلطة يعملون بنظام رزق اليوم باليوم، ولا يرون أبعد من أرنبات أنوفهم.

وهذا أمر يتحمل وزره جميع من حكموا السودان، ولكن القسم الأكبر من الوزر يتحمله نظام الرئيس عمر البشير، ليس فقط بوصفه الأطول بقاء في سدة الحكم بل لأنه أهدر موارد البلاد، وعلى رأسها النفط في مشاريع عبثية و"شخصية"، واعتمد على هيكل مترهل للحكم، حيث كان عدد البرلمانيين يفوق الألف، وعدد الوزراء في المركز والأقاليم يفوق الأربعمائة، ولتغطية نفقات الحكم الهائلة عمد نظام البشير إلى تسليع كل شيء، فباع ملايين الأفدنة لمستثمرين أجانب بعقود مجحفة في حق السودان، ثم أهمل الزراعة تماما، حتى انهار مشروع الجزيرة الذي هو أكبر مزرعة مروية انسيابيا في العالم بسبب العطش، بعد أن خنق الطمي المتراكم عبر السنين شرايين القنوات التي كانت تغذيه بالماء.

ومن المضحكات المبكيات أن الحكومة السودانية الحالية ظلت تبشر المواطنين الغرقى والصرعى بأنها "شدة وتزول" باكتمال سد النهضة الأثيوبي بعد سنتين أو ثلاث، وهي في هذا لا تختلف عن سابقاتها اللواتي كن يتنازلن عن حصة كبيرة من نصيب البلاد من المياه لمصر، ليس عن كرم، بل عن اضطرار لأنهم لم يعملوا قط على استغلال نصيب البلاد من المياه بموجب الاتفاقيات مع الشركاء في النيل، بما يفيد البلاد، فكان أن ذهب الفائض إلى مصر، ولأن سد النهضة سيجعل مناسيب الماء في النيل شبه ثابتة طوال العام، مما يوفر الري الانسيابي للمزارع على طول النهر في السودان، مما يسهم بدوره في جعل الزراعة في السودان من ثلاث عروات بدلا من عروتين، فإن مصر ترى في سد النهضة شرا مستطيرا لأنها ستصبح محرومة من فائض الماء السوداني الذي كان يغذي أراضيها.

كل شيء حي جاء من الماء، ولكن قصور ساكني قصور الحكم في السودان يجعل من الماء سببا لهلاك كل ما هو "حي"، ويصبح ما كان ينبغي أن يبقى أخضر، هشيما تذروه الرياح، فلا يبقى سوى لطم الخدود والنواح..