أيمن نبيل

مرت أخيراً الذكرى السادسة لاندلاع الثورة السورية، وقد حدثت تحولات كبيرة في مسار الثورة على مستويات النظام والدولة والمجتمع والتحالفات الدولية والإقليمية.
ورغم ما تنطوي عليه ثورة السوريين من مأساة إنسانية تعطل أحياناً قدرة المرء على التفكر في تمفصلاتها ومساراتها، فقد يكون من الجيد تحليل بعض الأفكار الكامنة في مسار الثورة وجدل مختلف الأطراف معها، ومن هذه الأفكار المهمة فكرة «الشعب» التي تلعب دوراً حاسماً في الثورة الشعبية عامة من جهة، دوراً مهماً في بنية دولة الاستقلال العربية من جهة أخرى.
إنكار النظام للثورة
في الثقافة السياسية العربية مشكلة عويصة عند التعامل مع مفردات ومصطلحات مثل الشعب والثورة والجماهير، وهذا إشكال ربما ظهر وازداد تعقيداً مع نشوء دولة الاستقلال العربية الجمهورية التي كانت الثورة المسلحة ضد الاستعمار أو الانقلاب العسكري باسم الجماهير بدايتها ومنبع شرعيتها الأصلي.
الأنظمة الجمهورية الوليدة كانت تتحدث كثيراً عن الشعب باعتباره كتلة واحدة لا تتجزأ، وهذا الفهم للشعب ليس خطأ دوماً، خاصة عند بناء الدولة التي تعتمد أساساً على تمثيلها للشعب وتطابقها معه كأحد مشرعنات وجودها وممارساتها.
ولكن ما ميّز الأنظمة العربية هو أنها أضافت لنفسها منابع شرعية أخرى، مثل قضية فلسطين والسياسات الاشتراكية ومحاولات التحديث خاصة في حقول التعليم وتصفية الإقطاع، ترهلت الدولة العربية وأخذت مع الزمن تفقد مبررات وجودها عبر اتفاقات السلام مع إسرائيل، سواء أكانت منجزة أم في طور التحضير، وعبر «اللبرلة» الاقتصادية الفاسدة التي سحقت الأمان المعيشي والحقوق البسيطة للمواطنين وإنجازات دولة الاستقلال، والتي أدت كذلك إلى عودة صور جديدة أكثر شراسة من الإقطاع في المناطق الزراعية، ولكن هذه المرة عبر رجال الأعمال المقربين ثم المتحالفين لاحقاً مع النظام السياسي، أي باختصار انتهت شرعية النظام السياسي مع فشل الدولة الوطنية ووصولها إلى نهاية مطافها.
لم يبق أمام النظام السياسي والنخب الثقافية المقربة منه بعد فشله وحالته البائسة إلا التذكير بثورات الاستقلال أو الانقلابات العسكرية -التي سميت ثورات لاحقاً- باعتبارها أول وآخر منابع الشرعية.
هذا المشكل في فهم مفردة «الشعب» في الخطاب السياسي ظهر في الثورات العربية على الضفتين: ضفة النظام وضفة الثورة؛ فالأنظمة العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا لم تعترف بالثورة رغم أن الثورة ليست قيمة معيارية في حد ذاتها؛ أي أن الأنظمة العربية وإعلامها كان بإمكانها نظرياً التعليق على الاحتجاجات والقول إنها ثورة، وإنها -أي هذه الأنظمة- ضد هذه الثورة، ولكن القلب الصلب للنظام العربي الجمهوري الذي يرى في الثورة مصدر شرعيته الأخير لا يستطيع رفض الثورة ولا يطيق هذا، خاصة مع انحطاط هذه الأنظمة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، والذي لا يعطي مساحة وقوة لأي مثقف حتى يقف ضد الثورة من منطلق تراكم سياسات إصلاحية لا تزال جارية.
وهذا أحد أسباب غياب مثقف الدولة أو المثقف المحافظ في الثورات العربية الأخيرة، باستثناء الحالة السورية التي كان فيها مثقف «نصف محافظ»، أي مثقف غير رافض للثورة ويطالب بالتوازي أن يقوم النظام بمهمة الثورة و«يلغي نفسه»، لأنه يعرف مشاكل المجتمع وطبيعة النظام، وكانت وجهة النظر هذه صحيحة وتصدر عن دراية حقيقية، وإن كانت مطالبة النظام السوري تحديداً بالإصلاح أقرب إلى «التمني» منها إلى النصح الذي تؤمل منه نتيجة، لأن الذي يعرف طبيعة النظام السوري يدرك أنه سيرفض الإصلاح مهما كلفه الثمن.
من هنا، كانت الأنظمة العربية لا تعترف بأن هذه ثورات أساساً؛ أي كالتفاف على المشكل الإيديولوجي الخانق الذي واجهها، وتحاول الطعن في فعل الاحتجاج والمحتجين عبر اتهامهم بالعمالة للخارج وقبض الأموال، وهذا سر تكرار نفس التهم والتحريض في الأقطار العربية الخمسة في أثناء الثورة.. فقد واجهت الأنظمة المتشابهة في قلبها الإيديولوجي الصلب نفس المشكلة.
«قامت الأنظمة العربية التي طالت فيها يوميات الثورة، وهي اليمن وليبيا وسوريا، بالاتكاء مجدداً على فكرتها الخاصة وغير التاريخية عن الثورة باعتبارها حركة يقوم بها الشعب بأكمله وإلا فهي ليست ثورة! وطريقة استثمار هذه الفكرة كانت في حشد المظاهرات الداعمة للنظام، لإظهار أن الشعب منقسم وبالتالي لا وجود للثورة»!
كان أكثر الأنظمة «اختناقاً» بمشكلة الثورة الشعبية هو النظام السوري؛ فهو رغم تحلل إيديولوجيته الرسمية على المستوى العملي، خاصة بعد صعود الأسد الابن للرئاسة، بقي متشبثاً بالخطاب الإيديولوجي الرسمي والرموز المُكرسة والبنية الداخلية للدولة، والإبقاء على الوضع الخاص للحزب الحاكم بقواعده المنتشرة في البلاد على الأقل شكلياً، مع إضافات عملية اللبرلة الاقتصادية التي تخللت كل ما سبق وأضرت بحياة السوريين اليومية. ولهذا، حين أُعلن تنحي حسني مبارك عن السلطة، نقل التلفزيون السوري تغطية قناة الجزيرة لميدان التحرير، مع تعليق في الشاشة يقول: «سقوط نظام كامب ديفيد»؛ فالنظام لن يستطيع الاعتراف بالثورة كما هي دون اختزالها في زاوية تسمح له بالإفلات منها.
في محاولة أخرى للمراوغة وإنكار وجود الثورة، قامت الأنظمة العربية التي طالت فيها يوميات الثورة، وهي اليمن وليبيا وسوريا بالاتكاء مجدداً على فكرتها الخاصة وغير التاريخية عن الثورة، باعتبارها حركة يقوم بها الشعب بأكمله وإلا فهي ليست ثورة! وطريقة استثمار هذه الفكرة كانت في حشد المظاهرات الداعمة للنظام، وهكذا يظهر أن الشعب منقسم وبالتالي لا وجود للثورة!
من الأمور ذات الدلالة على عجز النظام العربي عن رفض الثورة أن مشكلة النظام وأذرعه الإعلامية مع فكرتي «الثورة والشعب» استفحلت ووصلت إلى مستوى يبعث أحياناً على الرثاء؛ فقد ظهر إعلامي وكاتب لبناني في برنامج تلفزيوني مع بدايات الثورة السورية وكان من استنتاجاته أن هذه الاحتجاجات ليس لها علاقة بأي تصور معروف عن الثورة، لأن السوريين كانوا يتظاهرون ليلاً، ولا توجد ثورة يتظاهر فيها الناس ليلاً كما قال!
إنكار الثورة لقواعد النظام
على ضفة الثورة، ظهر إشكال الشعب والجماهير كذلك في الثقافة السياسية لكثير من المحتجين، وهذا ليس غريباً، فقد غرست الأنظمة العربية تصوراتها غير التاريخية والرومانسية عن الثورة والشعب في المجتمع عبر مقررات التاريخ المدرسية والإعلام والخطب السياسية. فلم يتقبل جزء كبير من المحتجين مثلاً احتشاد مواطنين في ميدان السبعين دعماً لعلي صالح أو أمام باب العزيزية دعماً للقذافي أو المظاهرات الداعمة لبشار الأسد.
وللالتفاف على هذه المشكلة -مشكلة أن الشعب ليس كتلة واحدة- بدأت تظهر تفسيرات خطيرة ظهرت سريعاً في سوريا حيث كان التفسير الأولي لهذا الواقع هو النزوع الطائفي لدى قواعد النظام. هذا النوع من التفسيرات هو المهدد الفعلي لوجود المجتمع، وهو تفسير غير مقنع بالمناسبة، لأن وجهة نظر أخرى أكثر تعقيداً قادرة على تقديم تفسير متماسك لوجود هذه القواعد.
هذا بالإضافة إلى ربط النظام بالمجتمع مصلحياً عبر الحزب خاصة في عهد الأسد الأب، ومن ضمن هذه الأسباب يأتي وجود نزوع طائفي يدفع بالبعض للوقوف مع النظام، خاصة مع الموجة الأصولية التي اجتاحت الثورة السورية -بمساعدة النظام في بعض الحالات- ووقفت نظرياً وعملياً ضد كل مطالب الثورة وألحقت بصورتها ويومياتها وقواعدها دماراً هائلاً استفاد النظام منه ولا يزال في جوانب مختلفة.
المشكلة الطائفية ظهرت مبكراً في الثورة السورية لأنها ليست وليدة الثورة تحديداً، بل وليدة الفشل الذريع للنظام في عملية التحديث واستثماره لهذا المشكل في تثبيت نفسه خاصة في خطابه تجاه الخارج كحام للأقليات(...). 
خلاصات للمستقبل
خلاصة ما يخرج به المرء من متابعة هذا المُشكل التاريخي كما ظهر في الثورة السورية خاصة هو أن المجتمع ليس عضوياً ولا يفترض به أن يكون، وما تفعله الثورة من أجل الحرية هو أنها تفتح الباب لقيم مثل الحرية والعدالة لكي تشمل المجتمع بأكمله -بما فيه قواعد النظام- عبر مأسستها في الدولة والدستور.
وهذه القيم لا تتأثر بالأغلبيات؛ فالمرء يقف في صف الثورة لأنها تستبطن قيماً أخلاقية يمكن اتخاذها أهدافاً في ممارسات سياسية محددة مثل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتوزيع الأكثر عدالة للثروة والتنمية والمواطنة واحترام القانون وصون كرامة الإنسان، وهذه أمور تمس يوميات السوريين كأفراد ومستقبلهم كمجتمع.
ولا يقف المرء مع الثورة لأن أعداد المنضوين فيها أغلبية، فلا معنى للأغلبية سياسياً بدون نظام ديمقراطي ودستور حديث. ويفترض بكل السياسيين الذين يتحدثون الآن باسم الشعب السوري ألا يغازلوا أي نزعات طائفية عبر اتخاذها أداة لتفسير كل ظاهرة اجتماعية تخص الثورة، وهذا يختلف عن رصد تأثيرات الطائفية في المجتمع، ودراسة عوامل استفحالها وتقديم طروحات جيدة لتجاوزها. وتلك مهمة عسيرة على كل حال بسبب طبيعة النظام الوحشية وجنونه الإجرامي، ولكن الشعب السوري الذي قدم التضحيات الكبيرة يستحق أن تضطلع نخبه بالمهمات العسيرة، وهذا أقل ما تقدمه لهذا الشعب الذي يُنكب كل يوم.