فهمي هويدي

إذا ما ظُلم المرء وأمضى بسبب ذلك في السجن سنوات تطول أو تقصر، ثم شاءت المقادير أن يطلق سراحه قبل انتهاء محكوميته، فهل يشكر من سَجَنَهُ أم يعاتبه؟ وإذا علمنا أنه عانى في السجن ما عاناه من عنت وقهر، فمن في هذه الحالة يعفو عن من؟!
تساؤلي من وحي الأصداء التي أحدثها العفو في نهاية الأسبوع الماضي عن أكثر من مائتين من المصريين الذين سجنوا ظلماً في خلال السنوات الثلاث السابقة، لكني قبل أن أفضي بما لديّ، أستأذن في رواية قصة سمعتها من الشيخ محمد الغزالي الذي حلت ذكرى وفاته في ٩ آذار الحالي. ذلك أن الشيخ رحمه الله كان مديراً للدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف في عهد الرئيس أنور السادات. وانتقد في مؤتمر عام تعديلات قانون الأحوال الشخصية الذي قيل إن قرينة الرئيس كان لها دور فيها. ونقل إلى السادات أنه هاجم السيدة قرينته، (ولم يكن ذلك صحيحاً). وبسبب هذه الوشاية أطيح الشيخ الغزالي فألغيت وظيفته ونقل «مستشاراً» في مسجد آخر بالجيزة لم يكن له مكان فيه، فما كان منه إلا أن قبل عرضاً للعمل أستاذاً للشريعة بإحدى الجامعات السعودية. وغاب هناك نحو أربع سنوات ثم عاد إلى مصر. ولسبب أو آخر أصدر السادات قراراً بتعيينه وكيلاً لوزارة الأوقاف لشؤون الدعوة. أبلغ الشيخ بالقرار ودعي إلى لقاء الوزير لاستلام منصبه، وفى اللقاء اقترح عليه الأخير أن يبعث ببرقية شكر إلى الرئيس يحيّيه فيها ويؤيده، فرفض الشيخ كتابة البرقية، وقال للوزير إن الرئيس هو من أساء إليه ولكن الله هو من أنصفه وردّ إليه اعتباره. وحين ضغط عليه الوزير فإن الشيخ خرج من مكتبه غاضباً، وما إن وصل إلى بيته حتى بعث إليه باستقالته من وكالة الوزارة، وقعد في بيته مستريح الضمير.
ما قاله الشيخ الغزالي هو رأيي في مسألة الشكر على العفو الرئاسي الذي أراه إيجابياً بطبيعة الحال. لكنه إذا كان قد فرَّج كرب ٢٠٣ أشخاص، إلا أنه لم يعوّضهم عن الفترة التي عاشوها ظلماً في غياهب السجون بعيداً عن ذويهم. وأزعم أن ذلك التعويض (الذي لا أتوقعه) وحده الذي يستحق الشكر. وفي كل الأحوال فإن ترحيبنا بالخطوة التي تمت لا ينبغي أن ينسينا أن الذين تم العفو عنهم يمثلون قطرة في بحر المظلومين الذين يعانى منهم آلاف آخرون يقبعون في السجون منذ سنوات، وينتظرون الفرج من عند الله.
بقيت عندي عدة ملاحظات على ما جرى أختصرها في ما يلي:
معلوماتي أن الذين شملهم العفو ليسوا مرشحي اللجنة الخماسية التي شكلت لهذا الغرض بعد مؤتمر الشباب الذي عقد في العام الماضي، ذلك أن اللجنة ظلت أكثر من ثلاثة أشهر تدرس الحالات التي تستحق العفو، وأعدت في النهاية قائمة ضمت أكثر من ٥٠٠ اسم أرسلتها إلى الرئاسة، لكن القرار الذي صدر لم يشمل سوى ٥٪ من الأسماء التي رشحتها، والباقون (الـ٩٥٪) أدرجتهم جهات أخرى في الدولة.
- تشير القرائن المختلفة إلى أن العملية تتسم بصعوبة بالغة وتكتنفها حسابات معقدة تجريها جهات عدة. ورغم أنه يفترض أن كل المعلومات متوافرة ولا يستغرق تحصيلها أكثر من دقائق، إلا أنها في حالة الدفعة الثانية استغرقت خمسة أشهر، ولم تكن مصادفة أن يصدر القرار متزامناً مع قرار إطلاق سراح الرئيس مبارك بعد تبرئته، حتى بدا وكأن التوقيت كان محسوباً لأسباب سياسية.
أثار تحليل القسم القضائي بـ«الشروق» لقائمة المشمولين بالعفو الانتباه إلى أن من بين الـ٢٠٣ أشخاص ٢٠٠ صنفوا باعتبارهم متعاطفين (مع الإخوان) وكان ذلك مبرراً لسجنهم ومحاكمة بعضهم. وهو ما يعني أنهم كانوا مجرد متظاهرين سلميّين لم يرتكبوا مخالفة للقانون. وبدا مدهشاً أن من بين هؤلاء ٣٦ شخصاً حكم عليهم بالسجن ١٥ سنة، و٢٣ حكم عليهم بالسجن المؤبد. إن ظلمات السجون لا حدود لها.