العدد 1633 /9-10-2024

عيسى الشعيبي

فيما يتكشّف مع مرور الوقت مزيدٌ من الخسائر المادية المُتكتّم عليها، تلك الناجمة عن الهجمة الصاروخية الإيرانية المركّزة ضدّ عدة مواقع وقواعد جوية إسرائيلية، وفق ما تواصل نشره منصّات التواصل الاجتماعي والأقمار الاصطناعية، وما يجري بثّه من مقاطعَ مصوّرةٍ، تسرّبت من قبضة الرقابة العسكرية الصارمة، هناك في المقابل جملة من الخسائر غير المنظورة، لحقت بدولة الاحتلال، ومسّت بها مسّاً شديداً، عميقاً، طويل المدى وبالغ الأثر، من دون أن يحفل بها المعلّقون على هذه الضربة كثيراً، بهذا الشقّ الوازن من ركام الخسائر الإسرائيلية المتجلّية أمام نظر كلّ ذي عين بصيرة.

يمكن لكلّ صاحب وجهة نظر مسبقة، أو لكل من لديه كراهية صغيرة إزاء سجلّ الجمهورية الإسلامية الإشكالي، المثير للواعجٍ في الخليج والمشرق العربي، أن يُهوّن النتائج المادّية الملموسة لهذه الضربة، وأنْ يُصدّق أكاذيب الناطق العسكري الإسرائيلي كما يشاء، بل أن يجزم أنّ لوح زجاج لم يُكسر في تلّ أبيب، جرّاء دويّ نحو مائتي صاروخ كانت كلّها مُجرَّد ألعاب نارية، إلّا أنّ أحداً من ذوي الرؤية الثاقبة، ممّن يرون أبعد من أنوفهم، ولا تنطوي عليهم أُزعومة الأماكن المفتوحة، ليس في وسعه أن يُنكر فداحةَ الخسائر غير المنظورة، التي وقعت في مركز وعي المجتمع المأزوم، وحفرت عميقاً داخل عوالم الدولة المجنونة.

ويظلّ السؤال: ما هي هذه الخسائر غير المنظورة، التي تستحقّ مثل هذه المقاربة المتأنّية، وتستأثر بكامل هذه المساحة، إذا كانت الخسائر المادّية المحسوسة ذاتها موضع أخذ وردّ وسجالات حادّة؟ ... ممّا لا تغفله عين مراقب موضوعي، ولا يفوّته بصر من يرى الأكمة المتوارية خلف الشجرة بوضوح، أن يُسجِّل في هذا الصدد ثلاث سوابق غير مسبوقة في تاريخ هذا الصراع المديد، وأن يرى كذلك طيفاً من النتائج التي لا تقبل التأويل، ترتبت من هذه الضربة المفاجئة لحلفاء إيران قبل خصومها، وغير متوقّعة من جانب أعداء بلد وازنٍ وكبير، أَسمع الجميع طوال عام كامل جعجعةً بلا طِحن، فبدا مثل ذئب شائخ، إلى الحدّ الذي صارت تهديداته منصّةً للاستهزاء والتندّر.

السابقة الأولى ماثلة في حقيقة أنّ هذه الضربة الصاروخية، وأيّاً كانت دوافعها الخفية أو نتائجها المنظورة وغير المنظورة، هي أكبر ضربة صاروخية تعرّضت لها دولة الاحتلال منذ قيامها قبل 76 عاماً، أظهرت هشاشة مناعتها الذاتية وقصور دفاعاتها الجوّية، وحاجتها المُلحَّة للحماية الأميركية. أمّا الثانية فقد تجلّت في واقعة أنّ الضربة هذه كانت أكبرَ ضربةٍ صاروخية في التاريخ، حدثت خلال دقائق معدودة، أقلّه منذ دخول الحروب الحديثة عصر الصواريخ الباليستية، ويزيد من أهمّية السابقة الثانية هذه أنّها الأشد ثقلاً من نظيرتها السابقة، كما أنّها كانت بكاملها صناعةً ذاتيةً، وهذه سابقة ثالثة من سوابق العالم الثالث النادرة، إن لم نقل طفرة قد تُشكِّل نقطةَ تحوّلٍ في المواجهة المُحتدِمة.

في طيف الخسائر غير المنظورة، وهي بيت القصيد في هذه المطالعة، نجد أنّ هذه الضربة، التي أطلقت 1800 صفارة إنذار دوّت على امتداد الخريطة، وأدخلت عشرة ملايين صهيوني إلى الملاجئ دفعةً واحدةً، قد أنذرت بفتح جبهة سابعة من العيار الثقيل، وأيقظت دولةَ المجانين من نشوة الإنجازات الاستخبارية، نشوة شارفت ضفاف سكرة حرب الأيام الستّة، الأمر الذي بدّد حلم نتنياهو بإعادة صياغة الشرق الأوسط على مقاس الدولة العبرية، رغم استمرار حالة الإنكار والمكابرة.

كما أطلقت هذه الضربة، التي خلقت ديناميات لا حصر لها، وأنتجت قوّةَ دفعٍ استثنائية، تعزّزت في سياقاتها روح القتال، رفعت المعنويات، وأخرجت المقاتلين في لبنان وغزّة من حالة الصدمة، ورفدت القوّة الكامنة في النفوس، التي هدّتها سلسلة الاغتيالات، بطاقة داخلية مُتجدّدة، بمضاء وعنفوان وثقة، تماماً على نحو ما تجلّت عنه أخيراً المعارك في مارون الراس، وفي رفح وخانيونس، من خلال مواجهات بطولية وهجمات من المسافة صفر، أثخنت جنودَ الاحتلال قبل أن يعبروا عتبةَ الباب، وقلبت عليهم الطاولة والتوقّعات، وتلك واحدة من أهمّ النتائج غير المنظورة لهذه الضربة، التي وقعت أساساً في حيّز الوعي، وأتت في وقتها الملائم، بعد أن تأخّرت كثيراً، وبدت لوقت طويل غايةً عصيّةً على التحقّق، وبعيدة المنال، حتّى الدقائق السبع الأخيرة من لحظة وصول الصواريخ.