علي الصالح

فعل ترامب ما لم يفعله رئيس أمريكي قبله، فعلها ترامب واعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. الاعتقاد السائد أن قرار الاعتراف، ما كان ليتم لو لم يكن بالتنسيق مع أنظمة صديقة وحليفة وشريكة، في إطار ما يسمى «صفقة القرن»، التي كشفت عنها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، وهذا ما أكده رئيس الدبلوماسية الأمريكية ريكس تيلرسون، مباشرة بعيد إعلان الاعتراف، إذ قال إن هذا القرار اتخذ بعد التشاور مع «الكثير من الأصدقاء والشركاء والحلفاء»، وهذا يعني شيئاً واحداً، هو أن الكثير، إن لم يكن كل بيانات التنديد التي صدرت عن العديد من عواصم العرب، ليس إلا تمويهاً وإبعاداً للشبهات، على الأقل في هذا الوقت الذي تغلي فيه الدماء ويتعاظم فيه الغضب الشعبي. وتنتظر هذه الأنظمة هدوء النفوس وامتصاص النقمة وانتهاء المظاهرات المتوقع أن تستمر لأيام أو أسابيع، لتكشف عن الخطوة التالية.
وقبل الخوض في تفاصيل «صفقة القرن» نؤكد أنها أفكار حملها جاريد كوشنر صهر ترامب ومستشاره لشؤون الشرق الأوسط، وتبناها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال زيارة كوشنر للسعودية، وقضاء نحو أسبوعين هناك، وهي بالتأكيد ليست من بنات أفكار كوشنر بل نتن ياهو. والشيء بالشيء يذكر، فإن كوشنر كما كشف مؤخراً يترأس مؤسسة تابعة لأسرته تقدم المساعدات المالية للمستوطنين.
وتتلخص «صفقة القرن» حسب (نيويورك تايمز) بدولة فلسطينية دون سيادة متقطعة الأجزاء، أي محميات كمحميات الهنود الحمر في أمريكا، والأبورجنيز في أستراليا؛ محميات متناثرة عاصمتها بلدة أبو ديس المطلة على قبة الصخرة الشريفة في البلدة القديمة، ما يعني التنازل بالكامل عن القدس، والإبقاء على معظم المستوطنات وكذلك منطقة الأغوار، والتنازل أيضاً عن حق العودة، وطبعاً إغراءات مالية كبيرة. 
 وحسب مزاعم «نيويورك تايمز» فإن محمد بن سلمان حاول الضغط على أبو مازن لقبول الخطة، لكن الرئيس الفلسطيني الذي أصيب بالصدمة والذهول والغضب، رفضها بالمطلق وقال إنها تخدم إسرائيل أكثر من أي مقترح قدمه أي رئيس أمريكي.
 فعلها ترامب ونفذ وعده، واعترف بصراحة ووقاحة بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. ولم يُعَرّف للقدس حدوداً، بل تركها مفتوحة كلّ يفسرها كما يحلو له، والتفسير دوماً لمصلحة الطرف القوي والمتحكم، إسرائيل، وهي التي لم تكن تنتظر هذا الإعلان لتبدأ تهويد المدينة المقدسة. فالعملية قائمة ومتواصلة منذ اليوم الأول لاحتلالها، في حرب الخزي والعار في حزيران عام 1967.
 باختصار شديد، فإن ترامب بقراره هذا أطلق رصاصة الرحمة على التسوية السياسية برمتها. كل ذلك دون مقابل على الأقل ظاهرياً. وإن كان هناك من يعتقد أن الثمن الذي سيتقاضاه، ربما يتمثل بوضع حد لفضيحة «رَشْيا- غيت» التي تلازمه منذ ما قبل فوزه في الانتخابات قبل نحو سنة.
ما تشهده العواصم العربية والإسلامية من ردود أفعال ليست في مستوى الحدث الجلل. ولكن هذا ما كان متوقعاً، فالانظمة المشاركة في المؤامرة لن تسمح بردود أفعال أكثر من تنفيس الاحتقان في النفوس لمنع الانفجار الكبير. وفي كل الأحوال ليس متوقعاً أن تتواصل ردود الأفعال في العالم، والاعتماد الكلي سيكون على انتفاضة فلسطينية جديدة شعارها الاستمرار حتى تحقيق الانتصار. ولنا بهبّة القدس في حزيران الماضي التي حققت أهدافها بصمود أهل القدس وتضافر جهود الكل الفلسطيني، مثالاً حياً يحتذى به. وليتذكر الفلسطينيون أن انتفاضاتهم التي دوما تأتي في الوقت المناسب، أفشلت غير مرة مؤامرات شطب القضية.. ولتثبت للعالم العربي قبل العالم الخارجي أن الشعب الفلسطيني أكبر من كل المؤامرات، وقادر على تحطيمها على صخرة صموده. وها هو بعد قرن من محاولات شطبه لا يزال حياً يرزق، والرقم الصعب في أي معادلة شاء من شاء وأبى من أبى.
اعتراف ترامب سحب من واشنطن دور «راعية السلام» الذي لم يكن حقاً لها بالأساس، واعتراف ترامب أثبت أن الولايات المتحدة لا تستطيع إلا أن تكون منحازة إلى إسرائيل، فهما دولتان قائمتان على أساس اغتصاب أرض الغير. وأثبت أيضاً أنه لم تعد هناك عملية سلام، فلا سلام بدون دولة فلسطين، ولا دولة لفلسطين بدون القدس.
بفعلته أكد ترامب المؤكد، فأثبت مجدداً أن سياستنا السلبية فشلت وجلبت إلينا الدمار، وأثبتت أيضاً أن قانون الغاب هو السائد في المفهوم الأمريكي للعلاقات الدولية، والضعيف هو الوحيد الذي يتمسك بها.. لم نحترم خطوطنا الحمر فلم يحترمها الخصوم والأعداء.
لكن قرار ترامب ليس النهاية، بل يجب علينا أن نجعل منه البداية لتصحيح الخطأ القائم لعشرات السنوات، وللتحرر من كل قيود ما يسمى الاتفاقات السابقة القائمة على أسس غير منصفة، وفي مقدمتها اتفاق أوسلو. هذا الإعلان يجب أن يكون حافزاً يدفعنا نحو تصحيح الخطأ التاريخي، حافزاً لنعيد تعزيز صمود شعبنا على أرضه ووحدتنا حول الهدف والرؤى، عبر بناء ذاتنا ومؤسساتنا وكياناتنا الوطنية التي طالما أهملناها، على أسس وطنية وتمثيلية وديمقراطية ومؤسسية وكفاحية. علينا أن نحدد أهدافنا بوضوح، ونضع رؤى واستراتيجية جديدة تجعلنا نتخلص من السلبية والإحساس بالضغف، وتخرجنا من المواقع الدفاعية التي طالما تمترسنا خلفها وتلقينا فيها الضربة تلو الأخرى، لننتقل إلى الهجوم. وأسلحتنا كثيرة ستؤتي أكلها لو أحسن استخدامها. اعتراف ترامب سيزيد حالة الاستقطاب في المنطقة وحتى في العالم، ويجب أن نرى في ذلك قوة لا ضعفاً.
ويبقى السؤال هو: هل سيتبع إعلان ترامب إعلانات أخرى هذه المرة من عواصم عربية؟  وأختتم بمقولة لرئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير بعد تلقيها خبر إقدام يهودي أسترالي وصفوه بالمختل عقلياً، على حرق المسجد الأقصى: «لم أنم طوال الليل، كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجاً من كل مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء وكل شيء نريده». ولنجعل من ردنا على جريمة ترامب، تصحيحاً لاستنتاجات غولدا مائير… رداً يقلق مضاجع نتن ياهو ومن يشد على يديه.}