رضوان زيادة

يُقال في علم البيولوجيا، إن العضو الذي لا يستخدم يضمر. ويبدو ذلك صحيحاً في علم السياسة، فالشخص الذي لا يقاتل من أجل صلاحياته داخل النظام السياسي يختفي، وربما ينتهي تماماً. والمؤسسة أو الهيئة التي لا تلعب دوراً حيوياً في تنشيط النظام السياسي وتفعيله تضمر تدريجياً، حتى يضمحل دورها نهائياً.
يبدو ذلك صحيحاً تماماً بالنسبة إلى جامعة الدول العربية اليوم، المؤسسة التي نحن اليوم بأشد الحاجة لها، فما يجري في المنطقة العربية ليس بالشيء الذي يحدث كل يوم، وليس من نوع الأحداث السياسية الصغرى، إنها إعادة ولادة نظام إقليمي جديد ووفاة النظام السياسي العربي التقليدي كما عرفناه عقوداً. هناك أسباب عديدة يمكنها تفسير هذا الانهيار الكامل، في مقدمتها أنه ليس للأنظمة السياسية العربية الممثلة في هذه المنظمة الإقليمية أي إيمانٍ بدورها أو الحاجة لها.
ولذلك، تغدو الحاجة إلى تغيير النظام السياسي العربي مصيرية، وهي مسألة حياة أو موت، إذا ما فكّرنا في التحديات الإقليمية الرئيسية التي تواجه الإقليم العربي، وأولها، إعادة الأمن والاستقرار ونهاية خطر الإرهاب، وضمان الانتقال الديمقراطي السلمي في بلدان الربيع العربي أو الثورات العربية، وبناء نظام إقليمي عربي يعكس الطموحات الكبرى للمواطنين العرب بإيمانهم بانتمائهم العربي، ورغبتهم في البحث لهم عن مكان بين الأمم.
يجب أن ندرك اليوم أن النظام العربي المطلوب تغييره ليس هو «ميثاق جامعة الدول العربية» وما انبثق منه من معاهدات واتفاقات تحكم العلاقات العربية، وفق ما ورد في نصوصها كما أن «النظام العربي» لا يتعلق فقط بالعلاقات البينيّة العربية، وإنما يشمل هيكل (وبناء) النظام السياسي الذي قام عليه نموذج الدولة القطرية أو الوطنية، بحيث يشمل آلية صنع القرار في النظام، والعلاقة بين المؤسسات الدستورية والتشريعية والتنفيذية والقضائية.
كان لغياب جامعة الدول العربية عن أداء أي دورٍ، ولو على المستوى التوجيهي لمراحل التحول الديمقراطي، بعد ظهور المظاهرات الشعبية في بلدان الربيع العربي، أثر رئيسي في فشل عملية التحول، خصوصاً إذا قارنّا الدور الذي لعبه الاتحاد الأوروبي في عملية التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكان حاسماً في توجيه، ومن ثم نجاح عملية التحول بشكل سلمي ومدروس، على الرغم من اختلاطها بالعنف في بلدانٍ كثيرة، كما حال رومانيا، مثلاً. لعبت جامعة الدول العربية دوراً في طلب حماية المدنيين في ليبيا، وبعد ذلك انكفأت تماماً حتى لم تعد تكترث بإصدار أي بياناتٍ ذات معنى سياسي، فضلاً عن غياب المبادرات لحل الأزمات المتراكمة في اليمن وليبيا وسورية والاحتلال الإسرائيلي، وترك ذلك كله للأمم المتحدة والدول الإقليمية التي لديها مصالح ورغبات متناقضة.
مصير الجامعة اليوم على المحك، ولا معنى لمؤسسة يعلق عليها العرب آمالاً كثيرة، لكنها تنوء تحت ثقل وعبء يفوق قدرتها على العمل. أعرف تماماً المشكلات البنيوية التي رافقت تأسيس الجامعة منذ ولادتها، لكن من المخزي لنا، نحن العرب، أن تكون الجامعة أقدم عمراً من الأمم المتحدة نفسها، ومن كل المؤسسات الإقليمية الأخرى، كالاتحادين الأوروبي والإفريقي ومنظمة الأميركيتين، ولا تستطيع الخروج من أزمتها الهيكلية في إعادة بناء هياكلها وأسسها على معايير جديدة، إنها تعبير مطلق عن اليأس العربي والفشل في بناء نظامهم السياسي، وترك الأمر للآخرين للقيام بذلك.
ما تفتقده الجامعة اليوم، وقبل كل شيء، قيادة ذات رؤية وإيمان بقدرتها على التغيير، فانعدمت فيها المبادرة، واكتفت بأن تكون تعبيراً سيئاً لفشل الأنظمة السياسية العربية. من الضروري اليوم الخروج من الإطار التوصيفي والتجريدي للدخول في عمق الأزمة البنيوية التي تعصف بالجامعة، ولعل الكلام النظري الكثير عن المشروع النهضوي العربي الذي سيطر على الخطاب العربي في التسعينيات من القرن الماضي حل محله اليوم التفكير كيف يمكن أن تتحوّل الجامعة إلى محرّك ديناميكي وحيوي لإيجاد آليات تعزّز الإيمان بأن ضبط الفضاء العربي ما زال ممكناً.