العدد 1413 / 13-5-2020

معاذ محمد الحاج أحمد

"قاسم سليماني يقف وراء زعزعة الاستقرار في المنطقة، وضالع في قتل وإصابة مئات الأمريكيين، من ذلك الهجوم الأخير على السفارة الأمريكية في العراق، والقصف الصاروخي الذي أودى بحياة أحد المواطنين الأمريكيين"، بهذه الكلمات المقتضبة برر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراره المفاجئ بتصفية قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، ورفيق دربه أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي فجر يوم الجمعة المنصرم، بينما كان قادماً من أحد رحلاته المثيرة للجدل خارج الحدود، متجولاً بين سوريا ولبنان والعراق التي تشهد معظمها احتجاجات مطلبية رافضة للغلاء والبطالة وتردي الأوضاع المعيشية وهيمنة الطبقة السياسية الفاسدة، تلك الاحتجاجات التي وصلت إلى قلب إيران التي قمعتها بكل عنف وقسوة بأمر مباشر من المرشد متهمة الولايات المتحدة وخصومها في المنطقة بتأجيجها؛ لجني ثمارها بإسقاط النظام الإيراني.

على الفور أطلقت إيران وأذرعها العسكرية في المنطقة الوعيد، وتعالت صيحات النفير والتهديد بالرد المزلزل انتقاماً لمقتل سليماني -ذراع خامنئي الضارب ورجل المهمات الصعبة- ورفاقه، وجاء التهديد الأقوى على لسان خليفة سليماني في قيادة فيلق القدس العميد إسماعيل قاآني الذي تعهد باستهداف الوجود الأمريكي في المنطقة، مضيفاً إن العالم سيرى جثث الجنود الأمريكيين تتناثر على امتداد الشرق الأوسط معتبراً أن تصفية سليماني هو تجاوز أمريكي لخط أحمر عريض يفرض على إيران الرد الحاسم لمواجهة غطرسة الشيطان الأكبر.

في حين اكتفت المجموعة الدولية في معظمها بالتعبير عن القلق البالغ، والدعوة إلى ضبط النفس، وضرورة خفض التصعيد بين الدولتين، عدا ألمانيا وبريطانيا وبالطبع إسرائيل التي عبرت عن سعادتها بتصفية سليماني، وأنحت باللائمة على إيران، وقالت إن استمرار النهج الإيراني الاستفزازي هو الذي أجبر الولايات المتحدة الأمريكية على القيام بهذه العملية الكبيرة، ويشاطرها الموقف ذاته بعض الدول الخليجية التي تناصب النظام الإيراني العداء. وبين المتحمسين لتصفية سليماني والمنددين بهذا السلوك الأمريكي الحدي المتجاوز لقواعد الاشتباك السابقة، لا بد من رصد الأسباب التي دفعت ترامب لاتخاذ قرار تصفية مهندس التمدد الإيراني في المنطقة، والتخلي عن استراتيجيته الانعزالية الرافضة لانخراط الولايات المتحدة في الأزمات الدولية، وتغييره قواعد الاشتباك التقليدية التي وضعت بلاده على شفير الحرب مع طهران.

الولايات المتحدة يمكن أن تبتلع رداً إيرانياً متجانساً مع عملية الاغتيال ولا يتجاوز الخطوط الحمراء، في حين ما تزال إيران من جهتها مستعدة للاستماع إلى الوساطات الإقليمية والدولية، ومقتنعة أن الولايات المتحدة لا يمكن مجابهتها عسكرياً

بادئ ذي بدء، يعتقد ترامب المولع بالنرجسية والسوبرمانية أن إيران قد خدشت كبرياء الولايات المتحدة أمام جمهوره وصقور إدارته بظهوره في موقف العاجز عن القيام بأي عمل يمكن أن يجبرها على الإسراع في العودة إلى طاولة المفاوضات وفق المحددات التي وضعتها إدارته، ولا سبيل إلى تركيع إيران إلا بالقيام بعمل عسكري جريء يصيب القيادة الإيرانية بالصدمة؛ لتسويق هذا الانتصار في الداخل الأمريكي الذي يتحضر للانتخابات المقبلة، حيث يطمح ترامب إلى الفوز بفترة رئاسية جديدة، وبالتالي تفويت الفرصة على الحزب الديموقراطي الذي يستعد لمحاكمته في الكونغرس بتهمة إجرائه اتصالاً هاتفياً بالرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي مطالباً إياه بالتحقيق مع عائلة منافسه في الانتخابات المقبلة جو بايدن بغرض تشويه صورته، ومهدداً الرئيس الأوكراني بالحرمان من المساعدات العسكرية الأمريكية إذا لم يذعن لهذا الطلب؛ فإقدام ترامب على القيام بعمل عسكري نوعي بحجم سليماني يمكن أن يعزز حضوره بين أنصاره في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري، ويضعه بالتأكيد على مسافة أقرب من بعض الديموقراطيين الرافضين لاستفزازات إيران، رغم رفض الحزب الديموقراطي المعلن للعملية، واتهامه ترامب بتوريط البلاد في عملية عسكرية خطيرة يمكن أن تدخلها في حرب مباشرة مع إيران أو يكبدها خسائر فادحة على الأقل.

أمر آخر أثار مخاوف ترامب ودفعه إلى تنحية استراتيجية الانسحاب من الأزمات الدولية في هذه المرحلة هو مشهد اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد الذي قادته قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران وسليماني على وجه التحديد يعيد إلى ذاكرته وذاكرة الأمريكيين كابوس اقتحام السفارة الأمريكية في طهران وأزمة احتجاز الرهائن التي أفضت إلى هزيمة جيمي كارتر ووصول رونالد ريغان إلى البيت الأبيض، ذلك المشهد الذي تكرر مرة أخرى في ليبيا بطريقة دموية غير متوقعة باقتحام السفارة الأمريكية في بنغازي، وقتل السفير الأمريكي هناك، وهذا ما لا يريده ترامب في هذه المرحلة التي يستعد فيها لتسليم أوراقه لخوض الانتخابات الرئاسية لولاية ثانية منتشياً ببعض النجاحات الاقتصادية؛ لاسيما الأموال الطائلة التي استطاع حلبها من دول الخليج.

صحيح أن ترامب يريد مغادرة الشرق الأوسط، وينحي باللائمة على سابقيه بتوريط البلاد في حروب عبثية لا طائل منها، إلا أنه بات يستشعر الضعف أمام النفوذ الإيراني المتعاظم في العراق، في الوقت الذي تعد فيه إيران العدة لتصفية وجوده هناك من خلال حلفائها كجزء من حربها المعلنة ضد الولايات المتحدة التي تمارس أقصى درجات الخنق السياسي والاقتصادي؛ لإجبارها على الرضوخ للمطالب الأمريكية بأي ثمن كان. باتت الولايات المتحدة منزعجة من الوجود الإيراني في العراق ومعها الكثير من المكونات السنية والشيعية على السواء، إلا أن إقدام ترامب على تصفية سليماني على الأرض العراقية ومشهدية الجنائز العابرة للحدود قد نَفّسَ الغضب الشعبي العارم ضد إيران، وعاد الشعب ومن خلفه القوى السياسية يطرح مسألة خروج الولايات المتحدة من العراق.

بين التهديد والتهديد المضاد تحبس المنطقة أنفاسها وسط تزايد الخشية من انزلاق الوضع إلى حرب مدمرة، إلا أن هذا الاحتمال في نظري يبقى ضعيفاً؛ فالولايات المتحدة يمكن أن تبتلع رداً إيرانياً متجانساً مع عملية الاغتيال ولا يتجاوز الخطوط الحمراء، في حين ما تزال إيران من جهتها مستعدة للاستماع إلى الوساطات الإقليمية والدولية، ومقتنعة أن الولايات المتحدة لا يمكن مجابهتها عسكرياً، وهذا ما يمكن قراءته في ثنايا تصريحات القادة الإيرانيين التي أكدت أن الرد لن يكون متسرعاً بل سيكون في الوقت والزمان المناسب، ويستهدف الوجود الأمريكي في المنطقة بأسرها، رغم صيحات الثأر والوعيد بالقصاص العادل من الشيطان الأكبر وجثامين أمريكية جاءت عمودياً وستعود أفقياً على حد تعبير حسن نصر الله -الأمين العام لحزب الله وذراع إيران في لبنان- الذي وضع معادلة هندسية لطبيعة الرد الإيراني في المرحلة المقبلة. فهل يا ترى نجحت إيران في صرف غضبها عسكرياً بقصف بعض القواعد الأمريكية الخالية من الجنود في العراق؟ وهل يستطيع ترامب قبض ثمن هذه العملية الكبيرة في الداخل والخارج؟