بسام ناصر

«الناس على دين ملوكهم» من العبارات الشائعة والمتداولة بين الناس، وهي تعبر بدقة وعمق عن مدى قدرة السلطة السياسية على تشكيل دين رعاياها، أو إشاعة نسق التدين الذي تريده، إما لقناعة السلطة به، أو لأنه اختيارها الأنسب -بحسب تقديراتها- لتحقيق سياساتها ورؤاها. 
وقريب من تلك المقولة، ما قاله أحد السابقين: «إن الناس يميلون إلى هوى السلطان، فإن رغب السلطان في نوع من العلم مال الناس إليه، أو في نوع من الآداب والعلاجات كالفروسية والرمي صاروا إليه»، ومثله قول عمر بن عبد العزيز «إنما السلطان سوق فما راج عنده حُمل إليه».  
وأكثر ما تظهر تجليات تلك المقولة بتتبع سير الملوك والأمراء، ورصد ما كانوا عليه من التوجه والسلوك، ومدى تأثير ذلك وشيوعه في رعيّتهم،  يشير الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) إلى أمثلة ونماذج تظهر من خلالها آثار تلك المقولة في مشاهدها الواقعية، وتمثلاتها التاريخية. 
يقول ابن كثير: «ويقولون: وكانت همة الوليد بن عبد الملك في البناء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمّرت؟ وكانت همّة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوّجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همّة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم وردك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟».
ثم أورد بعدها تلك المقولة مستحسناً لها ومدلِّلاً عليها: «والناس يقولون: الناس على دين مليكهم، إن كان خمّاراً كثر الخمر، وإن كان لوطياً فكذلك، وإن كان شحيحاً حريصاً كان الناس كذلك، وإن كان جواداً كريماً شجاعاً كان الناس كذلك، وإن كان طماعاً ظلوماً غشوماً فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك، وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص».
يظهر من خلال الأمثلة والنماذج التي ذكرها ابن كثير كيف أن الناس يميلون إلى هوى السلطان واختياره، فيفشو فيهم ذلك الاختيار والتوجه، حتى يصبح هو الأكثر حضوراً في حياتهم، والأمر كذلك إذا ما أراد السلطان أن يشيع في المجتمع نسقاً معيناً من التدين، أو مذهباً من المذاهب العقدية أو الفقهية، فإنه بتبنيه له سيوظف كل أجهزة ورجالات دولته لإشاعة ذلك المذهب وترسيخه بين الناس. 
لذا فإن من المتسالم عليه بين دارسي تاريخ الفرق والمذاهب أن من عوامل انتشار مذهب ديني ما، وعلو صوته على غيره من المذاهب الأخرى في مرحلة تاريخية ما، تبني السلطة له، وفرضه على الرعية باعتباره نسق التدين الرسمي الذي تريد شيوعه بين رعاياها، ما يوفر له مساحات أوسع من الانتشار والنمو والازدهار. 
ومن المؤكد أن السلطة السياسية تملك من أدوات فرض اختيارها الديني ما يمكنها بالفعل من تحقيق ذلك، ويأتي في مقدمة تلك الأدوات توجيه العلماء والفقهاء والدعاة للقيام بذلك الدور، الذين سيسارعون إلى ذلك مهتبلين تلك الفرصة لأداء تلك المهمة بهمة عالية، وعزيمة ماضية، لأنهم يقومون بواجبهم الديني المفروض عليهم، لكنهم إن انساقوا وراء رغبة السلطان فضيّقوا على أتباع المذاهب الأخرى، ومنعوهم من حرية الدعوة إلى مذاهبهم فإنهم يقعون حينذاك في المحذور، الذي ربما تجرعوا مرارته في قابل الأيام. 
حينما تجد السلطة السياسية -أية سلطة-حاملي لواء الدين والشريعة يسارعون إلى تقديم فروض الطاعة لحكامها، ويبادرون في كل حدث ومناسبة إلى إعلان الولاء لهم باعتبارهم ولاة  الأمر الشرعيين، فإنها ستعض على ذلك النسق من التدين بنواجذها، وستغدق على رجالاته من الأعطيات والهبات والامتيازات، ما يديم طاعتهم لأولياء الأمور، ويجعلهم الحراس الأوفياء له، المسارعين إلى خدمته، والمدافعين عنه في كل حين. 
وحين يجيل المراقب نظره في واقع الأنظمة السياسية المعاصرة التي تحرص على أن تظهر في الناس بمظهر الدولة الدينية، فإنه سيجد مصاديق ذلك كله، من نجاح تلك السلطة في تشكيل نسق تديّن الناس على الوجه الذي تريد له أن يسود في المجتمع، مع كبت كل الأنساق الأخرى والتضييق عليها، وتوظيف العلماء والفقهاء والدعاة ليكونوا ألسنة الدفاع عنها، والترويج لها، والدعوة إلى شرعيتها.
ومن عجائب مصاديق تلك المقولة (الناس على دين ملوكهم) أن السلطة قادرة على تطويع غالب علمائها وفقهائها ودعاتها إلى كافة سياساتها واختياراتها، فما كان في قاموسهم الفقهي حراماً وممنوعاً، بات مع قرارات ولي الأمر حلالاً ومسموحاً، ولن يعجز أولئك القوم عن استخدام الأدلة الشرعية وتطويعها بما يتوافق مع توجهات السلطة، لإنفاذ سياساتها وقراراتها.}