العدد 1339 / 28-11-2018

بقلم : سيف الدين عبد الفتاح

صارت قضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، مثاراﹰ للحديث في كل أرجاء الدنيا، وفي كل وسائل الإعلام المختلفة، المرئية والمسموعة والصحفية في بلاد الشرق والغرب. ولم يكن هذا ليقع لولا المعالجة التركية للقضية، بما سلكته من أساليب، فوصلت إلى ما وصلت إليه، ذلك أن العلاقات بين السعودية وتركيا، قبيل مقتل خاشقجي، اتسمت بمزيد من التوتر من الناحيتين، الرسمية والإعلامية، بل وصلت على منصات التواصل الاجتماعي، إلى تصعيد غير مسبوق؛ إذ تطاول سعوديون كثيرون على تركيا وسياستها وقيادة الرئيس أردوغان.

ولنتصور أي سيناريو سيكون، لو أن الدولة التركية، بعدما نما إلى علمها "اختطاف خاشقجي"، ثم تأكدها من قتله داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، أعلنت رواية كاملة لواقعة القتل من ألفها إلى يائها. في أجواء التوتر تلك، أي مواقف عالمية متصوّرة عن تلك الاتهامات التركية يمكن أن تكون؟ سيأتي بعضها ليقول إن الاتهامات محاولة من تركيا لإلصاق ارتكاب الجريمة بالمملكة السعودية، اعتمادا منها على سياسة انتقامية في ظل العلاقات المتوترة. وقد تتهم بعض الأصوات تركيا بالمبالغة، وأنها تحاول أن تغطي على فشلها من الناحية الأمنية في حماية أشخاصٍ على أراضيها؛ دخلوا الأراضي التركية، وتم اختطافهم دون أي انتباه للأجهزة التركية.

ومن هنا، أشار كتاب أتراك إلى أن ذلك ربما يكون امتدادا بإسهام خفي من الإمارات

والسعودية في العملية الانقلابية في تموز 2016، وأن هذا ضمن استهداف تركيا في محاصرة عملتها، والعمل على تدهورها بشكل متصاعد في مواجهة الدولار. كان ذلك من التكهنات، وكان له ظلال وأصداء، إلا أن إشاراتٍ مهمة من بعض هذه المصادر جاءت إلى أن اختطاف خاشقجي يشكل استمرارا لهذه الحلقات من السياسات، للنيل من تركيا وأمنها القومي، وإبراز فشلها في معالجة بعض المواقف والسياسات. وقد أشارت هذه المصادر إلى أن تلك من ضمن السياسات التي تستهدف تركيا في هذا المقام في حلقات انقلابية متجدّدة.

بدا ذلك كله خطةً محكمةً، تقوم على قاعدة كيف يمكن أن تدفع عنك كل شبهة أو تقصير، وكيف يمكن أن تلف الحبل حول رقبة خصمك، لتدفعه دفعا إلى أن يقول بعض ما حدث، وأن يعتمد ما قلته في روايةٍ رسميةٍ من مسؤولين متعددين، ومن جهاتٍ قضائيةٍ أرغمت على فتح التحقيق.

استطاعت المعالجة التركية كذلك أن تجعل من هذه القضية موضع تدويل إعلامي، على الرغم من أنها لم تدوّل على مستوى التحقيق في القضية، وجعلت التحقيقات التركية موثوقاً بيها صادقةً، بينما جعلت التصريحات السعودية موضع تشكيك، أو على أضعف الفروض، لم تجب على أسئلة حقيقية ومفصلية في ما يتعلق بمسارات القضية، سواء في ما حدث في القنصلية، أو بما يتعلق باختفائه، أو بالطريقة التي قتل بها، أو بالجثة التي ظلت مخفية. شكل ذلك كله تحدّياتٍ للرواية السعودية، بينما شكل انتظارا من كل المصادر الإعلامية والسياسية مزيدا من التسريبات الإعلامية التركية، أو مزيدا من التأكيدات الرسمية القضائية في الدولة التركية. هكذا ظل الرأي العام الإعلامي الدولي، والغربي خصوصا، مرتبطا بالقضية، ونشأ واتسع رأي عام للتعاطف مع قضية خاشقجي، وتتالت المعلومات التي تأتي لتفضح فصولا مبهمة من هذه القضية، تابعها الرأي العام العربي من فضائية عربية احترافية، استطاعت أن تقدّم تغطية متواصلة للقضية، في طريقة بدت كأن الجمهور يتابع حلقاتٍ من قصة محكية، فشكلت القضية اهتماما واسعا على المستويين، العربي والدولي، ما وضعها في مركز الاهتمام، حتى للمواطن العادي، فضلا عن الوسطين، السياسي والدولي.

إلا أن هذه الأجواء، بالحالة الضاغطة التي شكلتها، استطاعت أن تقدّم ضغوطا غير مسبوقة، جعلت بعض هيئات إدارة ترامب ومؤسساتها تعترف بالرواية الكاملة التي تسند المسؤولية إلى ولي العهد، سواء عن القتل أو العلم به، إن لم يكن الأمر به، فشكلت تلك الأمور مناخا يصعب معه أن تتخذ الإدارة الأميركية موقفا يعزّز إفلات السعودية وولي عهدها من المساءلة الجنائية والدولية.

شكلت تلك المعالجة ضمن استراتيجيات متنوعة، وتسريبات متدرجة، واعترافات سعودية، حالة لا يمكن الوصول إلى إحكامها وحكمتها إلا من خلال تلك المسالك التي اعتمدتها المعالجة التركية في قضية خاشقجي، متخذة في اعتبارها كل تلك التشابكات والاعتبارات. وعلى الرغم من أن أطرافا هنا وهناك اتهمتها بأنها باعت القضية، أو ساومت عليها، فلم تلق بالاً لكل هذه التصريحات ، وظلت ضمن طريقتها تدفع المتهم إلى الاعتراف، في كل مرة، بجزءٍ من الحقيقة الدامغة في تطورات القضية، فوصلنا إلى المشهد النهائي، من خلال هذه الممارسة التي شكلت درسا مهما في قلب السحر على الساحر، ورد الكيد لأصحابه، وكشف المستور، في غالب الحقائق المتعلقة بالقضية، لتتوج بمطالبات دولية بإعلان المسؤولية الكاملة عن الجريمة الوحشية.