العدد 1353 / 13-3-2019

بقلم : محمود الوهب

حين يرفض الرئيس الإيراني، حسن روحاني، استقالة وزير خارجية حكومته، محمد جواد ظريف، قائلاً في جوابه إن "الاستقالة تتعارض مع مصالح البلاد"، فهذا يعني الكثير في الظرف الإيراني الراهن، إذ لا يُعتقد إطلاقاً أنَّ إيران تخلو ممن يشغل مركز الوزير ظريف، لا بل إنَّ عدداً غير قليل، بحسب بعض وكالات الأنباء، كانوا مرشحين للحلول في ذلك المركز الذي يعد الأكثر حساسية في حكومة أي دولة معاصرة، ومن هؤلاء وزراء خارجية سابقون أو عاملون في الحقل الدبلوماسي الخارجي، وربما ممن قد يغيِّرون موازين القوى المتصارعة في الدولة الإيرانية، وعليها.

إذاً ما السر الذي أزعج الوزير حتى يقدِّم استقالته، ولتأتي متعارضة مع مصالح البلاد، بحسب الرئيس روحاني؟! وهل هي فعلاً مجرد تسجيل نقطةٍ على من أراد تجاوزه أو تجاوز وزارته؟ لعلها كذلك، إذا أخذنا بالحسبان أنَّ التناقض بين أركان الدولة الإيرانية الرئيسة حول قضايا داخلية وخارجية أخذ يتعمّق بين اتجاهين واضحين، أحدهما يريد أن يذهب إلى أبعد مدىً في التدخل العسكري الخارجي، واستنزاف اقتصاد بلاده، ومقدّرات الشعب الإيراني باتجاه ما يسمّى "تصدير الثورة"، تحقيقاً لأحلام إمبراطورية، أو لثأرٍ مضى زمانه وتهالك، من دون أن يأبه لما آلت إليه حال بلاده من تردٍّ على غير صعيد، وبين اتجاه ربما كان أكثر توازناً في تقديره للظروف السياسية الراهنة، وبما يتناسب مع وضع العالم اليوم ومستجداته! فالضغوط الشعبية الناجمة عن سوء الأوضاع الاقتصادية والأحوال الاجتماعية التي أخمدت بالقوة لا تزال جمراً تحت الرماد، إذ إنَّ مشكلات الناس الموضوعية لم تحل، بل لعلَّها ازدادت تفاقماً، وتُظهر بعض الحوادث أن حال القمع الشديد بات يعبّر عن نفسه بطرقٍ تنذر بأخطارٍ قد لا تقتصر على جوانب سياسية فحسب (تكرّرت حوادث التفجير داخل إيران أخيرا). يقابل ذلك، على الصعيد الخارجي، ما هو أشد خطراً، فإيران في المشهد الدولي دولة مارقة، وعليها أن تتلقى مزيدا من العقوبات، وتزداد صورتها قتامةً في المشهد الإقليمي، والعربي منه خصوصا، إلى درجة أنَّ مهتمين عربا كثيرين باتوا يرون أنفسهم أمام تحدّيات عدوين خطرين، إيران وإسرائيل، ولعلَّ هذا الأمر قائم على صعيدي الأفراد وحكومات عديدة!

يُضاف إلى قتامة الصورة الإيرانية في المنطقة والعالم ما هو أشدّ خطورة، وهو أن إسرائيل تقوم، بين الفينة والأخرى، بعدوانٍ صريحٍ على مراكز عسكرية إيرانية في كل من سورية ولبنان، وحتى في العراق، دونما أي ردٍّ من الدولة الإيرانية، ما يفقدها مصداقية ما يقوم به بعض قادتها من تصريحاتٍ تخصّ إسرائيل بالذات. ويجري ذلك كله بعلم من أميركا وروسيا. وإذا كانت أميركا تدافع عن مصالحها النفطية وسواها في البلاد العربية عموماً، والسعودية خصوصا، فإنّ لروسيا مصلحةً في أن تكون الوحيدة في سورية، وهو ما سعت إليه منذ أخذت "الفيتوات" الروسية تتالى في مجلس الأمن ضد أيّة مبادرةٍ تتضمن حلاً سياسياً مناسباً يضعف من وجودها، وقد استغلها بوتين الذي لم يكتف بإذلال بشار الأسد، عبر بعض ضباطه، حين التقاه على الأرض السورية في حميميم، بل إنه قد منَّنَ عليه بما حققه من انتصار على الشعب السوري، إذ قال له، وهو يعرّفه بضباطه: "هؤلاء الذين حققوا لك النصر"، وليس خافيا على أحد أنَّ الصراع الروسي الإيراني بشأن الانفراد بسورية، والتحكّم بشؤونها ومقدّراتها قد وصل بينهما إلى إراقة الدم، فلكل منهما أنصاره وعملاؤه وأطماعه.

وإذا كانت زيارة بشار الأسد أخيرا، وبالشكل الذي تمّت عليه، قد فجّرت ما فجرته من صراعات، فإن زيارة نتنياهو موسكو والإعلان الغامض عن اتفاق الطرفين على تشكيل تحالف روسي إسرائيلي ودول أخرى، لم يكشف عن أسمائها، من أجل العمل على إخراج القوات الأجنبية من سورية، من دون تحديد لهوية تلك القوات، وهي كثيرة، وإن اختلفت في أغراضها ومراميها أو تباينت نظرة أبناء الشعب السوري وتياراته السياسية إليها (المعروف أن الأسد الذي رشحه أحد أعضاء مجلس "التجانس" في سورية لقيادة العالم لم يترك قوة في العالم لم يدخلها إلى بلاده الصغيرة عليه "كحاكم عملاق" بحسب ذلك العضو!) أما الواضح للعيان اليوم، وبحسب الحملة الأميركية الإسرائيلية، على إيران، ولأن نتنياهو حليف لترامب كما لبوتين، فإن القوات الإيرانية هي المعنية أولاً، خصوصاً أن ترامب يلوِّح منذ زمن بسحب القوات الأميركية، ولا يفعل.

يتضح مما تقدّم أن لعدم دعوة جواد ظريف للقاء الأسد تفسيراً واحداً، هو أنه يمثّل الوجه الإيراني الأكثر اعتدالاً، وهو على تناقضٍ مع قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني والمليشيات الأخرى التي تعمل تحت إشرافه في سورية والعراق. وليس خفياً أن مواقف ظريف بعامة تنسجم مع توجهات الرئيس الحالي، حسن روحاني، ولعلَّه أيضاً، أي ظريف، الأكثر تحسّساً للأوضاع الدولية، بحكم مركزه ونمط تفكيره وآليته، ولا يخفى دورُه في إنجاز الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة الأميركية. ومن جهة ثانية، إنه أيضاً مدرك أكثر من غيره حقيقة أوضاع بلاده الداخلية التي لم تعد خافيةً على أحد بعد الانتفاضات التي ملأت شوارع المدن الإيرانية منذ عدة أشهر، وقمعت على الرغم من مطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحقة.

ويظل سؤال المتابع محكوماً بأكثر من ظرفٍ معقد، أتراها الخارجية الإيرانية تنتصر بما تمثله من وسطيةٍ قادرة على أن تنشئ مصالحةً شاملة مع دول الجوار، يتفرّغ بعدها الإيرانيون لأوضاعهم الداخلية، وتسكينها بتجاوز مشكلات شعوبهم، ومتابعة بناء اقتصادهم وقوتهم من دون المساس بدول الجوار، أم أن المزايدة بتصدير الثورة والإيديولوجيا، واللهاث وراء أوهام إمبراطورية متخيلة، وإرهاق المواطنين في حياتهم السياسية والاجتماعية ستستمر إلى منتهاها، لتودي بهذا النهج من أساسه، كما جرى للاتحاد السوفييتي الذي كان لدوره المشابه في تصدير الثورة والإنفاق على الخارج والسلاح، وهو الذي يعدُّ أكثر قوة من إيران اليوم، وأكثر نفوذاً بما كان لديه من أحزاب شيوعية، ويستند، في حكمه، إلى فلسفة معاصرة تحاكي واقع الحياة والإنسان؟