العدد 1339 / 28-11-2018

بقلم : عبد الحميد عثماني

يسارع الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، الخطى التشريعية لإقرار قانون "المساواة" في الميراث بين النساء والرجال، بعدما صادق مجلس وزرائه على المشروع، الذي يتبنّى كذلك إلغاء الوليّ في الزواج بالنسبة إلى المرأة، وتمكينها من الزواج بالأجنبي غير المسلم دون إعلان إسلامه.. وبذلك، لم يعد يفصل الباجي عن تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ، سوى تصويت مجلس الشعب إن وافقه على المقترح.

لا شكّ في أن سياق الأزمة السياسيّة التي تعيشها تونس، زيادة على الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الخانقة قبل أشهر من الاستحقاق الرئاسي، قد عجّل بتمرير هذا القانون الجائر في حقّ هوية الشعب التونسي، لكنّ الأمر يعكس مدى التطرُّف العلماني الحاقد لدى القيادة السياسيّة العليا في البلاد.

ذلك، أنّ التجرّؤ على انتهاك الأحكام الشرعية، النصيّة القطعيّة منها أو تلك المُجمَع عليها، يتجاوز المفهوم التقليدي للعلمانيّة، التي يجعلها دعاتُها رديفا للحداثة الغربيّة، إلى سلخ المجتمع عن هويته الدينيّة والثقافيّة.

إذا كانت العلمانية بتعريفها التاريخي، تعني فصل الدين عن الدولة، فمعنى ذلك عدم تدخُّل الفقهاء في المسائل الفنيّة والإجرائية المتعلّقة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع وسواها، دون المساس بمقوّمات المرجعيّة الأخلاقيّة والثقافيّة النهائيّة للمجتمع.

لكن ما يحصل اليوم في تونس، من خلال فرض قوانين وضعيّة تلغي الخصوصيّات الدينية المنبثقة عن الرؤية الكونيّة للإنسان، يندرج ضمن ما يسمّيه المفكر العملاق عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، بـ"العلمانيّة الشاملة" في مقابل نظيرتها الجزئية، التي نادى بها معظم المفكرين العلمانيّين العرب.

ويؤكد المسيري في مقاربته الفكريّة أنّ "العلمانيّة الشاملة" ليست فصلا للدين عن الدولة، بل هي إقصاءٌ لكلّ القيم عن مجمل حياة الإنسان ونزع القداسة عنها، بحيث يتحوّل إلى أداة استعماليّة بمنطق الحداثة الداروينيّة، أي إنها تنكر في النهاية إنسانيّة الإنسان! أليس ذلك ما يعيشه الغرب الآن باسم الحريّة المطلقة التي تسحق الفطرة السويّة وهو ما أفضى إلى بروز جدليّة "ما بعد العلمانيّة"، نتيجة تناقضاتها الكامنة وأزمتها المتصاعدة، بفعل تجاهلها لأبعاد الوجود الإنساني، إن التشريع بما يناقض عقيدة الأفراد في المجتمع ليس تأسيسا للحرية الزائفة والمساواة الظالمة، بل هو هيمنة لمؤسسات الدولة على الحياة العامّة والخاصّة لمواطنيها!

المؤسف، أن نخبة النظام التونسي القائم لا تتعلّم من أخطاء الماضي، فقد حلم قبلها الحبيب بورقيبة أن يجعل من تونس "تركيا شمال إفريقيا"، بالارتماء في أحضان الحداثة الغربية، وحافظ على نهجه المخلوع ابن علي، لكنّ التجربة الفاشلة انتهت بالانقلاب على الأول وهروب الثاني، بعدما تأكد للشعب التونسي أن منوال التحديث والتنمية لم يكن سوى خدعة في خدمة الأقليّة العائليّة، ومع ذلك يصرّ السبسي على سلك ذات الطريق الخطأ، في وقت تعود تركيا إلى هويتها الحضاريّة.

إذا كان الرئيس العجوز في مقترحه الأخير منسجماﹰ مع قناعاته وخياراته وبرنامجه الانتخابي الذي قدّمه لأنصاره في كانون اول 2014، فإنّ الرجل قد وضع حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلاميّة، بين مطرقة المبادئ التي لا تقبل المساومة أو المهادنة وسندان المصالح التي يراد لها أن تضبط قواعد اللعبة السياسيّة، وعليها أن تختار بين الانتصار بموقف حاسم لهويّة الشعب التونسي أو الاستسلام تحت ذريعة "الواقع" لمخطّط التغريب الكامل.