نبيل البكيري

المتابع لتداعيات الأحداث المتسارعة عقب مقتل الرئيس السابق علي عبد الله صالح على يد حلفائه من جماعة الحوثي، وشركائه في انقلاب 21 أيلول 2014، يلاحظ حجم المفارقات التي طفت سريعاً على سطح المشهد السياسي اليمني، وخاصة ما تعلق منها بكتلة صالح وتركته السياسية والعسكرية التي بناها خلال فترة حكمه الممتدة لأكثر من ثلاثين عاماً.
فالملاحظ أن المشهد السياسي اليمني يتجه بقوة نحو مزيد من التفكك والإرباك، الذي سيزيد الوضع تعقيداً على ما فيه من تعقيد وارتباك، ما سيزيد من تعقيد الوضع العسكري والاقتصادي والسياسي أيضاً، في ظل مرحلة هي الأخطر في تاريخ اليمن والمنطقة كلها، تتطلب رؤية استراتيجية واضحة ومواقف سياسية شجاعة ومصيرية من قبل كل الأطراف الداخلية والخارجية المعنية بالوضع اليمني عموماً.
فبقدر ما مثل مقتل صالح، نهاية مرحلة وبداية أخرى، أضفى الحادث مزيداً من الحيرة والاندفاع للتحالف العربي، بعيداً عن نتائج تداعيات مقتل صالح التي أثبتت أنه لم يكن سوى ورقة من أوراق جماعة الحوثي والمشروع الإيراني، تم توظيفها في تمرير المشروع الانقلابي الذي استفاد من تركة صالح وميراثه السياسي والعسكري استفادة كبيرة.
انتهاء صالح بتلك الطريقة الدراماتيكية، كان تحصيل حاصل، بعد نزع كل مخالبه التي كان يعتقد أنه لا يزال يمسك بها، ويتعلق الأمر أولاً بحزب المؤتمر الشعبي العام، الذي ظل على رأسه منذ لحظة التأسيس الأولى في آب 1982 كمظلة لكل القوى والفعاليات السياسية في شمال اليمن، وانتقل به حاكماً لليمن كله عقب إعلان قيام الجمهورية اليمنية من اتحادي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية جنوباً، والجمهورية العربية اليمنية شمالاً التي كان حاكماً لها منذ 17 تموز 1978.
الشق الثاني من تركته، هو مخلبه العسكري المتمثل بقوات الحرس الجمهوري، نخبة القوة العسكرية اليمنية التي تم بناؤها بناء نوعياً تدريباً وتسليحاً وتمويلاً، فضمت عدداً من الوحدات النوعية كالقوات الخاصة وقوات مكافحة الإرهاب، وكانت تمثل قوة عسكرية ضاربة، وجعلها تحت قيادة أبنائه وإخوانه، وتم تشكيل هذه القوات وفقاً لعقيدة عسكرية ولائية لشخص الرئيس صالح وقادتها من أفراد أسرته.
تركة المؤتمر الشعبي
أُعلن تأسيس المؤتمر الشعبي العام في شمال اليمن بعد صعود صالح للسلطة بأربع سنوات، كذراع سياسية لنظام صالح، وكإطار للعمل السياسي، تنضوي تحته قوى سياسية مختلفة من إسلاميين ويساريين وقوميين وبعثيين وغيرهم، عدا عن شيوخ القبائل وقادة الجيش الكبار، والتجار والوجهاء، وذلك مخافة من العمل السياسي السري الذي كان قائماً قبل صعود صالح وبعده، ولكنه كان عملاً غير مسموح به دستورياً.
صاغ مجموعة من مفكري السياسة اليمنية حينها، وعلى رأسهم الدكتور أحمد الأصبحي وعبد السلام العنسي ما سُمِّي الميثاق الوطني، كبيان سياسي للكيان الجديد (المؤتمر الشعبي العام) ومثّل أول وثيقة سياسية يمنية للعمل السياسي بشروط تلك اللحظة اليمنية وتوجهاتها.
جاء إعلان الوحدة اليمنية بعد ثماني سنوات من تأسيس المؤتمر الشعبي العام، وأعلن قيامها في 22 أيار 1990، تلك الوحدة التي فتحت الباب على مصراعيه لتعددية سياسية وثقافية هي الأولى دستورياً في تاريخ اليمن الحديث، فتشكل على إثرها عدد من الأحزاب، بعض مؤسسيها قدموا من المؤتمر الشعبي العام.
فرضت التعددية السياسية نمطاً جديداً للعمل السياسي في اليمن، وعاش اليمن فترة ذهبية لهذه التعددية التي امتدت من أيار 1990 حتى تموز 1994، ولكن تلك الفترة الانتقالية انتكست بفعل حرب صيف 1994 التي نشبت بين شريكي الوحدة؛ الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جنوب اليمن، والمؤتمر الشعبي العام، الحاكم في شمال اليمن.
وبهزيمة الاشتراكي وتفرّد مؤتمر صالح بدولة ما بعد 7 تموز 1994، وإقصائه بعد ذلك لكل الأحزاب السياسية اليمنية، غدا المؤتمر حزب السلطة الأوحد في البلاد، وعلى تلك الخلفية انضم له كثير ممن لا يرون لأنفسهم مكاناً سوى حدائق السلطة ومغانمها وامتيازاتها وفسادها، وتحول إلى تجمع لكل طالب سلطة أو مركز نفوذ في سلطة صالح وحزبه.
وشيئاً فشيئاً توارى من صفوفه الأولى جيل التأسيس المشبع بالنضال السياسي والثقافي، وحل محلهم التجار وشيوخ القبائل وضباط الجيش الكبار، ولفيف من رجال دولة صالح وأشياعه الذين لا علاقة لهم بالعمل السياسي المدني بقدر ما هم باحثون عن مناصب ومكاسب في سلطة صالح ولا سبيل لها سوى الانضمام لحزبه وموالاته. وكان الحزب في كل محطة من محطاته يتخلى عن كوادره الكفوءة والمتعقلة، ويصعد إلى قمة هرمه السياسي من يتبنون الخط الجديد لصالح من سماسرة السياسة ومهرجيها الذين سعوا وسعى بهم صالح لتوريث سلطته لأولاده وأسرته من بعده.
جاءت ثورة 11 فبراير/شباط 2011 لوقف هذه المسرحية الهزلية، وفي ضوئها انقسم المؤتمر الشعبي العام، ونزل عن قطاره عدد من عقلاء المؤتمر أو ممن ظنوا أن الثورة ناجحة لا محالة، تلك الثورة التي أجبرت صالح على تسليم السلطة لنائبه الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي، فيما كان الانقسام الكبير للمؤتمر عقب سقوط صنعاء في 21 أيلول 2014 بيد المليشيات المذهبية الحوثية التي كانت على تنسيق تام مع صالح وما بقي من تركته.
وقد مثل مؤتمر صالح، غطاءً سياسياً جيداً لتمدد جماعة الحوثي واجتياحاتها للمدن اليمنية منذ خروجها من صعدة حتى وصولها إلى سواحل عدن، حيث استقبلهم أنصار مؤتمر صالح وقياداته الكبيرة، وسهلوا لهم المهمة، وتخلى عدد كبير منهم عن المؤتمر، و«تحوّثوا»، أي انصهروا ضمن أجندات جماعة الحوثي وخاصة في المناطق الزيدية.
وطوال ثلاث سنوات من الانقلاب وقبله، تمكنت جماعة الحوثي، تحت غطاء تحالفها مع صالح من رسم مسار الانقلاب وترتيب فكرة التحالف والانقلاب عليه تالياً، وتذويب تركة صالح الحزبية في إطار مشروعها الطائفي الانقلابي بشكل كبير، ومن لم يتمكنوا من تذويبه في إطار جماعتهم ومشروعهم بالإغراء يتم تذويبه بالترهيب والإرهاب كما فعلوا مع كثير ممن رفضوا فكرة هذا التحالف والانقلاب.
فما إن حانت لحظة الخلاص من صالح وقتله، حتى كانت كل تركته الحزبية المتبقية معه تعمل ضمن أجندات جماعة الحوثي، وتدين لزعيم الجماعة بالولاء بما فيها قيادات من الصف الأول ممن لم يفارقوا صالح لحظة، وخاصة في المناطق الزيدية، فيما المناطق الأخرى خارج مناطق النفوذ المذهبي للحوثي، فبقي الأمر مرتبطاً بقرار صالح لحد كبير، حتى لحظة الخلاص منه بتلك الطريقة التي أغاظت الكثير من أنصاره وأتباعه الذين لم يكن أمامهم خيار سوى ولائهم لمؤتمر الشرعية الممثل برئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي رئيس المؤتمر.
وهكذا مثل مقتل صالح محطة فارقة في مسيرة حزبه (المؤتمر الشعبي العام) الذي تتجه الأنظار إليه اليوم، وقد بدأت بوادر مزيد من الانقسام والتشظي تحوم حول ما بقي منه، وحتى هذه اللحظة، فالمؤتمر قادم على الانقسام الأفقي إلى ثلاثة أجنحة رئيسية هي:
- الجناح الأكبر والرئيسي فيه، وهو مؤتمر الشرعية بقيادة رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي ونائب رئيس الحزب رئيس الوزراء أحمد عبيد بن دغر ومعظم وزراء وكوادر الشرعية.
- ويمثل الجناح الثاني فريق نجل صالح (أحمد علي عبد الله صالح) المقيم في الإمارات، وهو الجناح الذي تسعى الإمارات من خلال أحمد علي لإعادة ترتيب صفوفه ممثلاً وحيداً للمؤتمر بعيداً عن مؤتمر الشرعية.
- أما الجناح الثالث، فهو الذي ما زال في مناطق نفوذ جماعة الحوثي وتحت تصرفها، وتسعى الجماعة من خلاله لإضفاء نوع من الشراكة معه، بعد تخلصها من صالح وأفراد أسرته، ويمثل هذا الجناح كوادر كبيرة كياسر العواضي وصادق أبو رأس وغيرهم من مشايخ قبائل صنعاء وما حولها.
تركة الحرس الجمهوري 
أنشئ الحرس الجمهوري منذ البداية كقوات نخبة، وكانت تحت إشراف مباشر من الرئيس السابق صالح، ولم تكن ألويته تنتمي إلى وزارة الدفاع وهيئة الأركان إلا شكلياً منذ تأسيسها بعد صعود صالح للسلطة، بينما كانت ترتبط حقيقة بشكل مباشر بمكتب القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية صالح.
وأنشئت هذه القوة لتحل محل قوات «العمالقة» و«المجد» التي كانت القوة الضاربة للجيش اليمني في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي، التي جرى تهميشها وتشتيتها بعد ذلك، فيما ظل العمل قائماً على تقوية قوات الحرس الجمهوري التي بقيت قيادتها محصورة في عائلة صالح ومقرّبيه، من أبناء منطقته وقبيلته.
حظيت قوات الحرس الجمهوري، بكثير من الاهتمام والدعم والتسليح والتدريب على حساب قوات الجيش اليمني الأخرى، عدا عن حصر قيادتها في أفراد أسرة صالح الذين تم ابتعاثهم للدراسة في أرقى الأكاديميات العسكرية والعودة بعد ذلك لقيادة هذه القوات التي لم تكن ذات عقيدة عسكرية وطنية، ما جعلها تبدو سهلة التوجيه والتحكم بها بعد ذلك من قبل الانقلابيين الحوثيين، خاصة أن هذه القوات لم تخض أي معارك من قبل ضد تمرد جماعة الحوثي الذي بدأ عام 2004.
كذلك إن خريطة انتشار هذه القوات تركزت في محيط العاصمة صنعاء وضواحيها، التي تشكلت من أكثر من 30 لواء عسكرياً، وفي قلب مدن الكثافة السكانية كتعز والحديدة وعدن بدرجة رئيسية. وجدير بالذكر أن هذه القوات ظلت ترقب المشهد السياسي طوال أحداث ثورة 11 فبراير 2011 مع مشاركة خفيفة في قمع المظاهرات ومواجهة بعض بؤر التوتر في أرحب وتعز، وأمانة العاصمة.
دخلت ميليشيات الحوثي صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014 باتفاق مسبق وتنسيق مع جماعة صالح في المؤتمر والحرس الجمهوري، وفي الحال بدأت هذه الميليشيات سريعاً في إعادة تشكيل هذه القوات والوحدات وفقاً لتوجهها الطائفي، على كل المستويات حتى على مستوى الدورات التأهيلية العقائدية لمختلف الألوية والوحدات العسكرية التابعة للحرس الجمهوري، التي تحولت سريعاً من الولاء للزعيم صالح إلى الولاء للسيد عبد الملك الحوثي، فأصبح الحرس الجمهوري أقرب إلى الحرس الثوري الإيراني منه إلى أي شيء آخر في اليمن.
لذا لم تكن نهاية صالح المأساوية بتلك الطريقة سوى تحصيل حاصل ونهاية متوقعة لواقع جرى تشكيله على مدى فترة طويلة من الزمن، ولم تكن السنوات الثلاث التالية للانقلاب سوى مرحلة تكميلية لإعادة صياغة تركة صالح وفق المرحلة الجديدة الخاضعة للون ومزاج جماعة الحوثي ومشروع الهاشمية السياسية الذي وجد ضالته في المشروع الإيراني بالمنطقة.}