العدد 1365 / 12-6-2019

عمر كوش

أطلق وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، قبل أيام، اقتراحاً على دول الخليج العربي، يقضي بتوقيع معاهدة عدم اعتداء بينها وبين نظام بلاده. والطريف أنه أطلق مقترحه هذا من بغداد، العاصمة العربية التي يتفاخر متشدّدون في النظام الإيراني بأنها إحدى عواصم عربية أربع يسيطر عليها النظام الإيراني، إضافة إلى دمشق وبيروت وصنعاء.

ويأتي المقترح في سياق حملة دبلوماسية تخوضها ايران ، لمواجهة الضغوط الأميركية، وفي ظل أجواء تشي باحتمال اندلاع حربٍ محتملةٍ في المنطقة، على أثر التهديدات الإيرانية والحشود العسكرية الأميركية. ولذلك، لا يتعدّى ما تحدث عنه ظريف كونه نوعاً من المناورة السياسية، في سياق محاولة نظام الايراني الالتفاف على الضغوط الأميركية، عبر إرسال تطمينات إلى دول الخليج. والسؤال الذي يطرح نفسه في سياق مقترح ظريف: من يعتدي على من؟ هل دول الخليج هي التي تعتدي على النظام الإيراني الذي رفع شعار تصدير الثورة منذ وصوله إلى الحكم في إيران، أم النظام الايراني نفسه ؟

المعروف أن معاهدة عدم الاعتداء مجرد وثيقة توقعها دولتان أو أكثر، لضمان عدم وقوع اعتداء مباشر بينهما، وتجنّب الحروب والنزاعات المسلحة، إضافة إلى تجنب الحروب بالوكالة. ولذلك لا تمتلك دعوة ظريف أي وجاهة أو ملمح جاد، خصوصا أنها لم تترافق مع ما يوحي بتهدئة الأوضاع في المنطقة، بوقف التدخل في شؤون دولها، ووقف واستعراضات القوة التي تقوم بها زوارق الحرس الثوري وطراداته في الخليج العربي، والامتناع عن القيام بمناورات عسكرية بحرية وجوية، وسوى ذلك.

ويحاول الوزير الإيراني تسويق مقترحه برغبة نظام بلاده في بناء علاقات متوازنة مع جميع الدول الخليجية، وباستعداد النظام الإيراني لتلقي أي مبادرةٍ تساعد على خفض التصعيد، وتكوين علاقات بنَّاءة مع جميع دول الجوار. وهي محاولةٌ ظريفةٌ يغلفها بوداعةٍ مخادعةٍ تشبه وداعة نظام الملالي الذي ينطق ظريف باسمه، وهو النظام الذي يحاول تقديم نفسه مؤمناً "بمبدأ تأمين المصالح الجماعية، وضرورة احترامها، ونبذ دوافع التفوق والنزعات التسلطية وإقصاء سائر اللاعبين". وتناقض كل هذه "القيم والمبادئ" تماماً سلوك نظام بلاده ودوره في بلداننا العربية الذي يتجسّد بما يقوم به من تفتيت وتمزيق.

ومع ذلك كله، يريد ظريف تسويق دعوى عدم اعتداء لنظام بلاده ، تظهره بمظهر النظام المسالم الذي يمدّ يديه مجدداً نحو جيرانه العرب، ويعتبر ذلك خياراً إستراتيجياً لهذا النظام، في حين أن خيار هذا النظام السياسي في المنطقة العربية، منذ عام 1979، نهض على مشروع إيديولوجي ديني، اتخذ تلاوين مختلفة في المنطقة، ورفع يافطة الممانعة والمقاومة ، بينما في الواقع، الأمر هو مشروعٌ يقف وراءه عقل سياسي، يخلط بين الديني والقومي، أي ما بين عقيدة مؤولة مذهبياً، وفق رؤية رجال دين متشدّدين، والطموح القومي الفارسي الذي يضرب في عمق إيديولوجيا متقادمة، وتاريخ غابر، الأمر الذي يجعل منه مشروعاً، يجمع بين سعيٍ حثيثٍ إلى الهيمنة وإلى التغيير القسري، ومحاولات لتحقيقه بمختلف الوسائل والسبل العنفية. وقد بنى نظام الملالي الإيراني مشروعه على دعاوى مذهبية زائفة، لا تمت إلى المذهب الشيعي بصلة، ولا إلى الدين الإسلامي، إنما بناها وفق سرديةٍ فارسيةٍ ثأرية، تضرب جذورها في الوعي السياسي الإيراني القومي المعاصر الذي أنتج مشاعر كراهية وسردية معادية للعرب، وللسنّة منهم تحديدا. وبقدر ما تنتمي هذه السردية الكبرى إلى تشكيلات الوعي الإيراني، بوصفها نتاج سيرورة التفكير القومي الفارسي والسياسي الإيراني في القرن التاسع عشر، بقدر كونها متأثرة بالنظريات والادعاءات العرقية والفاشية في الغرب الأوروبي، لكنها استفحلت مع وصوله إلى حكم إيران، الذين شرعوا في تحقيق مشروع هيمنة على المنطقة العربية، وخصوصا دول المشرق والخليج العربي.

لم يتحدّث ظريف عن الجهة التي استهدفت أربع سفن تجارية قرب المياه الإقليمية لدولة الإمارات، بينهما سفينتان سعوديتان، ولا عن استهداف الحوثيين محطتي ضخ تابعتين لشركة أرامكو السعودية، بل راح يحاول رؤية إيرانية تهدف "إلى تحقيق المصالح المشتركة لجميع دول المنطقة بغض النظر عن الخلافات والاختلافات"، مخفياً بوداعة وظرافة هندسة التخريب الاجتماعية التي اتبعها نظام في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، ومحاولاته تغيير تركيباتها الديمغرافية، وتمزيق نسيجها الاجتماعي المتراكب ، مستغلاً أوضاعها اللا مستقرة وحالات التردّي والأزمات، بهدف إشعال حروبٍ مذهبيةٍ وطائفية بين أبناء هذه المجتمعات، عبر تشكيل مليشياتٍ مذهبيةٍ ، يستخدمها كأذرع تدخلية أخطبوطية، ، بغية تحقيق مشروع هيمنةٍ وسيطرةٍ، إذ ليس خفياً ما تشهده الأوضاع العربية، في أيامنا هذه، من تدخلات النظام الإيراني المباشرة في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن وسواها.

ولعل الأجدر بالنظام الإيراني، إن كان فعلاً يريد حشد تعاطف جيرانه العرب ووقوفهم بوجه التهديديات الأميركية، أن يكفّ عن التدخل العسكري والسياسي في شؤون البلدان العربية، وأن يعيد بدقة حساب ارتدادات تدخلاته الهدامة في المنطقة العربية وإرهاصاتها، والأجدر به أن يلتفت إلى الشعب الإيراني، وأن يصرف مليارات الدولارات، المهدورة على المليشيات، لتلبية احتياجات حياة الناس في إيران.

والسؤال هنا: بعد كل ما فعله النظام الإيراني عن أي معاهدة عدم اعتداء يتحدّث ظريف؟