قطب العربي

 على عكس ما كانت عليه العلاقة الحميمة بين الأقباط ونظام المشير عبد الفتاح السيسي عقب انقلاب 3  تموز 2013؛ تبدو هذه العلاقة في الوقت الحالي معرّضة لهزات متصاعدة بتزايد جرائم العنف الطائفي ضد الأقباط وممتلكاتهم وكنائسهم، وعدم استطاعة السلطات الحاكمة توفير الحماية التي وعدتهم بها مقابل دعمهم لها.
وقد تنوعت مظاهر الغضب القبطي المتصاعدة ضد النظام فشملت الهجوم المباشر على رأس النظام، (السيسي) والهتاف برحيله، كما حدث خلال زيارته للكنيسة يوم 7 كانون الثاني 2016 للمشاركة مع الأقباط في احتفال عيد الميلاد، وتكرر ذلك في المظاهرات الغاضبة عقب تفجيرات كنائس البطرسية (11 كانون الأول 2016). وكذلك مهاجمة رموز النظام مثل رئيس الوزراء ووزير الداخلية من قبل المسيحيين الغاضبين أمام الكنيسة، والاعتداء المباشر على إعلاميي النظام (مثل أحمد موسى ولميس الحديدي وريهام سعيد)، وهو ما تكرر بطرق أخرى إثر وقوع حادثيْ كنيستيْ طنطا والإسكندرية (9 نيسان الماضي)، حيث تم الاعتداء المبرح على مساعد وزير الداخلية مدير أمن الغربية.
ومن مظاهر ذلك الغضب القبطي الامتناعُ عن المشاركة في استقبال السيسي مؤخراً في واشنطن، بل وتنظيم مظاهرات قبطية معارضة له، وظهور العديد من الأصوات الرافضة لاستمرار حكمه بين شباب الأقباط على صفحات التواصل الاجتماعي.
حين شارك رأس الكنيسة المصرية البابا تواضروس في مشهد انقلاب 2013 لم يكن يستهدف مجرد اللقطة، بل بدا من ناحية مُمْتَنّاً للتخلص من حكم وُصف بـ«الإسلامي»، ومن ناحية أخرى باحثاً عن أمان له ولطائفته توهّم أن قائد الانقلاب الجنرال السيسي قادر على تحقيقه.
لكن الواقع بعد ذلك أثبت أن هذا الأمان لم يتحقق، بل إن نسبة الاعتداءات -التي تعرض لها الأقباط وبيوتهم وكنائسهم- تضاعفت في عهد السيسي فقاربت مجموع ما وقع في 30 سنة سابقة، كما تضاعف عدد قتلى المسيحيين في أحداث عنف طائفي ليوازي جملة من قُتل منهم خلال نصف قرن تقريباً.
ويكفي لتأكيد ذلك أن نعرف أن عدد قتلى يوم واحد في كنيستيْ طنطا والإسكندرية بلغ 46 قتيلاً وحوالي 150 جريحاً، بينما بلغ عدد قتلى حادث كنيسة البطرسية 26 قتيلاً و53 مصاباً، وتم قتل 21 مسيحياً مصرياً في ليبيا يوم 17شباط 2015.
وقتل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ستة مسيحيين في سيناء خلال أسبوع واحد في شباط الماضي، وقام بتهجير منازل عشرات الأسر المسيحية، ناهيك عن العديد من حالات التهجير والاعتداءات الأخرى في قرى الصعيد المصري.
تصدع الدعم المسيحي للسيسي
هذا الغضب المسيحي المتنامي من حكم السيسي مؤشر خطير، ذلك أنه يكشف تصدّع أحد الأركان الأساسية الداعمة لحكم الجنرال، الذي جاء متزامناً مع تصدع أعمدة أخرى سواء في مؤسسة الأزهر، أو في الوسط القضائي أو الإعلامي، أو بين رجال الأعمال.
وقد مثل تصدع الركن المسيحي أهمية خاصة، ذلك أنه كان يمتلك قوة الحشد الشعبي التي تجسدت بقوة في مظاهرات 30حزيران 2013، وفي «جمعة التفويض» 26تموز 2013، وعبر المشاركة في الاستفتاء الدستوري والانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ومن هنا تبدو خسارةُ السيسي لهذا الركن خسارةً حقيقيةً إذا استمر منحنى الغضب المسيحي في صعود، وهو مرشح لذلك فعلاً؛ فرغم كل محاولات القيادة الكنسية -وعلى رأسها البابا تواضروس- الحفاظ على الدعم المسيحي بل زيادته للسيسي الذي تعتبره الكنيسة خيارها الوحيد، فإن هذه الجهود تواجه صعوبات حقيقية، خاصة مع تراجع ثقة المسيحيين في قدرة السيسي على الوفاء بتعهداته وتحقيق الأمان الكامل لهم.
ومع تنامي الشعور بأن نظام السيسي لم يعد صالحاً للاستمرار في حكم مصر عموماً، إثر تصاعد حالات الغضب الشعبي (لأسباب اقتصادية) والنخبوي (لأسباب سياسية) ضدّه، فإن استمرار الرهان عليه يبدو عملاً غير حكيم من وجهة نظر الكثير من النُخب المسيحية والشباب المسيحي، بل إن استمرار الارتباط به والارتماء في حضنه يسبب المزيد من المشاكل للمسيحيين.
وفي مقابل الاعتداءات المتصاعدة التي تعرض لها الأقباط في عهد السيسي؛ فقد نجحوا في حذف بعض مواد دستور 2012، ومنها (المادة 219) الخاصة بتفسير أحكام الشريعة، مع الإبقاء على المادة التي كانت موازنة لها والمتعلقة بحق المسيحيين في التحاكم إلى شرائعهم، ووضع نص دستوري عن ضرورة سن تشريع عاجل لبناء الكنائس، وهو ما تم فعلاً في أب 2016.
وفي الوقت نفسه نجح الأقباط في منع صدور أي تشريع يُخضع حسابات الكنيسة والأديرة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات أو غيره من الأجهزة الرسمية، رغم أنها تبلغ مليارات الجنيهات.
العودة إلى الغيتو الكنسي
وفي المقابل؛ انكمش دور الكنيسة متأثرا بموقفها السلبي من الثورة، شأنها شأن معظم المؤسسات الرسمية في دولة حسني مبارك التي ناصبت الثورة العداء منذ البداية، وظلت الكنيسة تُضمر العداء لثورة 25 يناير حتى بعد نجاحها في خلع مبارك، في انتخاب برلمان جديد ورئيس مدني.
ثم تمكنت الكنيسة من استعادة قيادة المشهد المسيحي مجدداً في الأيام الأخيرة لحكم الرئيس مرسي بدعمها للقوى الرافضة لحكمه، ودعواتها إلى الخروج ضده في مظاهرات 30 حزيران، إذ كانت نسبة كبيرة من المشاركين فيها من المسيحيين.
ثم كانت مشاركة رأس الكنيسة في مشهد انقلاب 3/تموز سبباً إضافياً لزيادة الاحتقان الطائفي، الذي عبر عن نفسه بتهور كبير عقب فض اعتصاميْ ميدان رابعة وميدان النهضة، باعتداءات واسعة على كنائس ومنازل المسيحيين ومنشآتهم في محافظات عدة، وكانت هذه الاعتداءات سبباً إضافياً في المزيد من الانحياز المسيحي إلى السيسي.
سيكون من قبيل التهويل القول إن العلاقة بين المسيحيين والسلطة وصلت إلى مرحلة الفصام أو أوشكت على ذلك، ذلك أن قيادة الكنيسة لا تزال تُمسك بدفة قيادة المسيحيين بشكل عام، ولا تزال تؤمن بالسيسي كخيار آمن ووحيد لها، ولكن سيكون من قبيل التهوين أيضاً القول إن العلاقة لا تزال على حالتها التي ظهرت عقب انقلاب 2013.}