د. سمير صالحة

ثبت أن النقاشات المطولة في القمم التي عُقدت أخيراً بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، لم تكن محصورةً في مسألة تجاوز الشروط والمواصفات التي تضعها موسكو للإفراج عن الطماطم التركية في الأسواق الروسية، وأن ما وراء هذه اللقاءات جدول أعمال استراتيجياً، أمنياً اقتصادياً سياسياً شاملاً، يسدل الستار على حادثة إسقاط طيار تركي مقاتلة روسية قبل عامين، ويعيد العلاقات إلى ما كانت عليه.
يتحدث وزير الدفاع التركي، فكري إشيق، عن اقتراب إنجاز التوقيع على شراء منظومة صواريخ «إس 400» الدفاعية الروسية المتطوّرة، وأنّ البلدين اتفقا على كل التفاصيل التقنية المتعلقة بالصفقة، وأنهيا الإجراءات القانونية المتعلقة بها، وأن الباقي أمور تقنية ومالية فقط.
دول غربية كثيرة، في مقدمتها الولايات المتحدة وشركاء تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإسرائيل، في حالة ترقب حذر اليوم، بعدما كانت هذه الدول تراهن على استحالة عقد صفقة من هذا النوع بين عدوّين تاريخيين، أخذا مكانهما في تحالفاتٍ متباعدة، واعتبار ما يجري مجرد لعبة نفوذ سياسية غير مجدية، بدأتها أنقرة مع الصين، وها هي اليوم تكرّر ذلك مع الروس، بهدف ابتزاز شركائها، والحصول على ما تريده من سلاح وتكنولوجيا غربية متقدّمة وتنازلات سياسية.
راهن شركاء تركيا في الأطلسي دائماً على حاجتها لهم أكثر مما يحتاجونها هم بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، وتفرّغ روسيا لجارتها في مواجهات النفوذ والسيطرة على حوض البحر الأسود، وإنهاء السيادة التركية على المضائق الاستراتيجية في البوسفور والدردنيل، وإبقاء العلاقات التركية الروسية فوق بركانٍ جاهز للانفجار في أية لحظة.
وصف بعضهم في واشنطن الاتفاق بأنه خيالي، يصعب تحقيقه بين جارين في حالة عداء دائم وترّقب حذر، وبنى حساباته على أساس أن تركيا لن تصمد أمام الضغوط الغربية، وستتراجع عن العقد، وأبعد ما يمكنها أن تقوم به هو لعب ورقة الصفقة وسيلة تهديد، للتأثير في قضايا إقليمية حساسة، أو ربما رأوا أن تركيا تبحث عن إيجاد فرصة منافسة بين الأسواق الغربية، من أجل الحصول على السعر الأفضل.
منح إسقاط الأتراك المقاتلة الروسية واشنطن فرصة أكبر للإمساك بخيوط القرار الأمني التركي الإقليمي، وتراجع احتمال أي تقارب بين أنقرة وموسكو، لكن مناورة أردوغان – بوتين أفشلت الرهان على مواجهةٍ أرادها بعضهم، وأيقظت عواصم غربية وإقليمية عديدة باكراً من الحلم. تستفسر أنقرة الآن عن سعر الصواريخ وتاريخ التسليم الذي يرى بعض الأتراك أنه سيكون قبل نهاية عام 2020 على أبعد تقدير. تردّد تركيا أن عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) لا تمنعها من انتهاج سياسة تسلح متعدّدة الاتجاهات، بما في ذلك شراء أسلحة روسية، كما فعلت اليونان وغيرها من حلفاء «الأطلسي» من قبل.
ما هي أبرز الأسباب التي تدفع أنقرة وموسكو لقبول التحدّي والتمسك بفكرة إنجاز هذا العقد، على الرغم من المخاطر والتلويح الدائم بالتهديدات الأميركية لتركيا؟ أطلقت تركيا موجة تحديث وتصنيع حربي واسع في منظومتها العسكرية القتالية، بعدما شعرت بأن الحلفاء في الغرب يساومون ويماطلون، ويتشدّدون في الاستجابة لطلباتها، على الرغم من أنها تمتلك ثاني أكبر جيش في «الأطلسي» تعتبر أن هذه المنظومة ستساهم في تعزيز قدرات دفاعاتها الجوية أولاً، وأنها ستمتلك لأول مرة نظاماً صاروخياً قادراً على اصطياد الصواريخ البالستية، وستتفوق بذلك على جيرانها في هذا المجال وستغنيها عن استخدام مقاتلات «إف 16» في الدفاع في المجال الجوي التركي، وستستفيد من خبرات الخبراء الروس وتجاربهم، واحتمالات المشاركة لاحقاً في التصنيع والإنتاج، وستعمل بمفردها على رصد الطائرات العدوّة دون الاستعانة برادارات «الأطلسي» الذي سيتركها تحت رحمته، والأهم من ذلك كله اعتبار الخطوة فرصة دفع حقيقي، باتجاه تحديث قدرات الجيش التركي.
وبالنسبة إلى روسيا، فهي خطوة ستعطيها فرصة وجود التصنيع الحربي الروسي في النظم العسكرية التركية، ويجعل من أنقرة شريكاً عسكرياً مهماً إلى جانب أهمية الصفقة الاقتصادية والمالية، وكذلك استغلال موسكو التوتر التركي مع حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن أن خطوة من هذا النوع ستعزّز التقارب بين البلدين، وستساعد على إيجاد أرضية مشتركة في التجارة والتعاون العسكري، والتنسيق المشترك لحل الأزمتين، الأوكرانية والسورية، والإسراع في بناء خط أنابيب الغاز «ترك ستريم»، وأول محطة للطاقة النووية التي ستبنى في مدينة «أك كويو» التركية. 
يقول مستشار الرئيس التركي، النور شفيك، إنه لا يمكن أميركا التي ورّطت تركيا في أكثر من ملف إقليمي أن تقطع الطريق على صفقة الصواريخ مع روسيا، لكن لماذا تعترض واشنطن على الصفقة؟ لأنها لا تريد خسارة تركيا زبوناً في بيع منتجاتها  العسكرية، ولأن الصفقة ستفتح الأبواب أمام تعاون وتنسيق عسكري استراتيجي، تركي روسي متعدّد الجوانب وبعيد المدى. ولأن هذا التعاون قد يتحول إلى تفاهمات استراتيجية أمنية إقليمية على حساب العلاقات التركية الغربية.
يتوقف الرئيس التركي في هذه الآونة مطولاً عند خيبات الأمل التي عاشتها بلاده مع الغرب، ويؤكد أن تركيا لن تنتظر أكثر من ذلك، وأنها تملك مساحة واسعة من الخيارات، لكنه يدرك جيداً أنه سيكون للخطوة التركية ثمنها الذي على أنقرة أن تدفعه حتماً، وفي مقدمة ذلك إبعاد تركيا عن الخطط وبرامج التخطيط الدفاعي الأطلسي، وإخراجها من منظومات تقنية فعالة، بينها أنظمة الرادارات والرصد والاستفادة من الأقمار الاصطناعية الغربية، ومنظومة الإنذار المبكر لحماية حدودها وقواتها. لم تعد تركيا تريد أن تكون تحت رحمة المظلات الصاروخية الغربية التي خذلتها عام 1991 أمام تهديدات صدام حسين، ثم عادت وخذلتها قبل عامين عند قرار سحب صواريخ الباتريوت المنتشرة على حدودها الإيرانية السورية، وهي في أمسّ الحاجة إليها. تراهن تركيا على ما هو أبعد من صفقة البيع والشراء، إنها تتطلع إلى تعاون تركي روسي في التصنيع والتدريب والتمويل المشترك، في برامج من هذا النوع، على الرغم من معرفتها أنها حتى لو حصلت على ما تريده ستكون تحت رحمة الانتقال من «تحت الدلف» الأميركي إلى «تحت المزراب» الروسي في الارتهان الصاروخي الدفاعي الاستراتيجي.
توقيع العقد النهائي وشراء منظومة إس 400 الروسية سيعني، في أحسن الأحوال، توجيه ضربة قوية للعلاقات التركية الغربية، الضعيفة أصلًا، لكنه يشكل مغامرة كبيرة في مسار تركيا الاستراتيجي الدائم التقلب بين الشرق والغرب.}