العدد 1361 / 8-5-2019

بقلم : عبد الصمد بن شريف

في رصد التحولات التي تخترق حاليا بعض المجتمعات العربية، وفي متابعة موجات متتالية من الاحتجاجات، التي بدأ معظمها قطاعيا، في تعبير عن عدم الرضا على الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نحن أمام دورة جديدة من الثورات، ساحتها الجزائر والسودان، بشعاراتٍ يتعلق معظمها بالتغيير الجذري للأنظمة السياسية، وإزاحة رموزها وأذرعها التي شكلت عنوانا بارزا للفساد والنهب والاستبداد، وكرست السلطوية المطلقة التي أجهضت أي إمكانية لتحقيق انتقال ديمقراطي كفيل بتعزيز دولة المؤسسات والعدالة الاجتماعية والكرامة والحرية.

وإذا كانت الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي سنة 2011، والتي تحول بعضها إلى مآسٍ، ومصدر دمار شامل للاجتماع والعمران، قد تمت مصادرتها، والإجهاز على تضحيات من فجّروها، فإن الحراكات الشعبية في الجزائر والسودان عمدت، منذ البداية، إلى الاستفادة من الأخطاء التي انتهى إليها الحراك الشعبي في مصر عام 2011، فاتسمت المسيرات الجزائرية بطابع السلمية أولا، ثم بعدم تقديم أي تنازل بخصوص القطع مع رجالات الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ومحيطه، والتمسك بإحداث قطيعة جذرية، مدخلا أساسيا لتحقيق تحول ديمقراطي فعلي. وهذا ما جعل نشطاء الحراك وقادته يرفعون سقف المطالب، ويُرغمون المؤسسة العسكرية على التفاعل التدريجي مع تطلعاتهم، لتثبت قوة الشارع أنها أكثر فعالية وقدرة على التأثير. وتتقاطع هذه الفكرة مع المفكر الأميركي وصاحب النظريات السياسية عن "القوة الناعمة"، جوزيف ناي، حيث يرى أنها تنتقل عبر طريقين، من الغرب إلى الشرق، ومن الدولة إلى الجهات الفاعلة غير الرسمية، كما حدث في ميدان التحرير في القاهرة خلال ثورة يناير.

ويرى ناي أن أفضل طريقة لاستيعاب انتقال القوة داخل الدولة إلى الفاعلين غير الرسميين هي التفكير في طبيعة ثورة المعلومات، وخصوصا أن قرننا يشهد تحولاتٍ جذريةً في مفهوم القوة، من شأنه أن يقلب أسس العلاقات الدولية التي استقرّت طويلا، ففي وقت استمر فيه انتقال القوة من دولةٍ مهيمنةٍ إلى دولة مهيمنة أخرى نمطا تاريخيا مألوفا قرونا، يبدو أننا صرنا أيضا بصدد ما يمكن اعتباره انتشارا للقوة، بطريقةٍ تجعل مزيدا من الأحداث المؤثرة تجري خارج نطاق سيطرة حتى أكثر الدول قوة. حيث كان الرأي السائد يذهب إلى التسليم شبه المطلق بأن الغلبة تكون دائما، وفي كل السياقات، للقوة العسكرية الأضخم، ولكن في عصر المعلومات، يعتقد جوزيف ناي أن الغلبة قد تكون للدولة أو الجهة التي تمتلك الرواية الأفضل للوقائع. وعلى الرغم من أن الدول ربما تظل الفاعل المهيمن على الساحة الدولية، إلا أن الواقع في عصر جديد يشير إلى حقيقة مفادها أن الساحة أصبحت أكثر ازدحاما، وأن السيطرة عليها باتت أكثر صعوبة، فقد أصبح أفراد كثيرون، كما جماعات كثيرة، أكثر من أي وقت مضى، قادرين على الوصول إلى القوة التي توفرها المعلومات.

مؤكّدٌ أن أي ثورة هي نتيجة منطقية لتفاعل عوامل وعلل وأسباب متجذرة بعمق في الوعي الجماعي، وتتمثل في قمع السلطة وإحباط الجماهير، ووجود غليان وقابلية للثورة. ثم يحدث أن تأتي اللحظة المناسبة لانبثاق الفعل الثوري. ومن هنا، يمكن استنتاج أنه لا فرق بين الشعارات التي نحتتها الثورة البلشفية في 1917 بزعامة لينين، ورفعتها الجماهير المنتفضة وقتئذ، مطالبة بالخبز والسلام وسقوط القيصر، وشعارات ميدان التحرير في القاهرة وساحة البريد المركزي في العاصمة الجزائرية وميدان الاعتصام في الخرطوم، فقد لوحظ أن البؤرة المركزية والنواة الصلبة للمطالب والشعارات هي محاربة الفساد، وإسقاط الاستبداد، والقطع مع المافيات السياسية التي حولت الأوطان رهينة وحظيرة للنهب. ولم ترفع هذه الشعارات وغيرها في مظاهرات المدن والبلدات الجزائرية والسودانية للاستهلاك الإعلامي، وهي ليست جزءاً من صحوة سوسيو – سياسية عابرة فرضتها التحولات والتطلعات الاجتماعية والسياسية التي اخترقت البلدين.

وقد وفر هذا كله بيئة ملائمة لتغلغل سوء التدبير والمحسوبية وشبكات المصالح وعلاقات القرب من الحكم ومراكز صناعة القرار، والنفاق الاجتماعي، والكذب السياسي والتزوير وشراء الذمم، وصناعة أساطير وهمية في أكثر من قطاع، وتحويل الرشوة إلى نظام اجتماعي مقبول لا يثير حرجا أخلاقياً، أي أن السلوكيات الفاسدة خرّبت المجتمع والدولة، ونخرت النفوس والعقول، ونهشت كل شيء إيجابي وإنساني.

ولم تنجح النماذج في اليمن وسورية وليبيا، بعد الثورات، في إقناع الجزائريين والسودانيين بعدم النزول إلى الشارع، تفاديا للسيناريو الأسوأ والكارثي، فالمواطنون الذين ضاقوا ذرعا بالتحكّم والسلطوية والنهب كسروا جدار الخوف، وقرّروا أخذ زمام الأمور بأنفسهم، ليرسموا مصائرهم بأيديهم.

وفي غياب مشروع جماعي متفق عليه، ومتوافق بشأنه وقابل للحياة، تظل الدول المستندة إلى منطق المقاربة والقوة الأمنية والعسكرية قائمة، ولكن في وضعية هشة ومختلة، إلى حين انهيار جدار الخوف، فتتطاير بعد ذلك كأوراق الخريف. ففي الجزائر ظل النظام السياسي عسكريا بامتياز، وإن كانت تجسّده شخصيةٌ مدنية. ويستمد الجيش شرعيته وسيادته من رصيد ثورة التحرير، وتأسيسا على ذلك، يعتبر الجيش نفسه حامي حمى الدولة والمؤسسات والثوابت وقيم الثورة، وهذا ما أثبته بقوة خلال العشرية السوداء، عندما سوّق خطاب استئصال الخطر الإسلامي.

ثقافة تقديس الشهداء التي ظلت مستمرة منذ الاستقلال في الجزائر لا يمكن التعامل معها من زاوية بريئة، كونها تشكل اعترافا بتضحيات جيل الثورة، فقد استثمرتها المؤسسة العسكرية ومختلف السلطات، للحفاظ على امتيازاتها، وإحكام سيطرتها على اللعبة السياسية ومصادر الثروة. وما يحدث الآن في الجزائر عملية دفن للماضي الذي شرعن الاستبداد. ومع احتلالهم الشارع، أصبحوا يشعرون بأنهم استعادوا ذواتهم وأجسادهم، وبات في مقدورهم إحداث خلل في ميزان القوى الذي ظل عقودا في صالح منظومة السلطة.

ويظهر من استقراء المسار الذي أخذته الثورة الجزائرية الحالية أنها لن تكون نزهة في حديقة،لأن تفكيك نظام بأكمله كما يطالب بذلك الشارع عمل صعب، يتطلب تماسكا ونفسا وصبرا، وسيكون على الجزائريين الخروج من ثقافة الحذر والشك، لإنجاز مهمة بناء مفهوم جديد للسلطة والتمثيلية، وبناء ثقافة الإجماع بالتوافق، وليس بالقوة. ويظهر أنه بعد سلسلة من المسيرات، وبعد عروض قدّمتها السلطة والمؤسسة العسكرية، بما في ذلك اعتقال بعض رموز الرئيس السابق بوتفليقة، فإن نشطاء الحراك ما زالوا يتمسّكون بمطلب التغيير الجذري للنظام السياسي، ومحاكمة المتورّطين في الفساد ونهب ثروات البلاد، كما يطالبون بضرورة أن لا تتحوّل المؤسسة العسكرية إلى نظام سياسي قائم بذاته، يمسك بكل السلطات، وإنما عليها أن ترافق الحراك وتحميه، وأن تضطلع بأدوارها في الدفاع عن سيادة الوطن وحرمته وحوزته.

ولذلك يجمع مراقبون في الجزائر وخارجها على استعجالية مأسسة الحراك، وتعيين مخاطبين له، وصياغة خريطة طريق متوافق بشأنها وقابلة للتنفيذ، فبدون ذلك، تبقى الاحتجاجات مجرّد لحظات ثورية حالمة، وتطلعات مشروعة إلى شكل آخر للوطن، فما يهم في أي حراك هو تحقيق نتائج وحصيلة سياسية على الأرض، لأن المراوحة في المكان قد تؤدي إلى ما هو أسوأ، كأن تسطو جهة معينة على الحراك الشعبي لتعيد إنتاج الاستبداد والإقصاء والمهانة بطرق قد تكون جديدة ومتطورة.