العدد 1405 / 18-3-2020

ياسر أبو هلالة

من ملامح اللاسامية القول إن إسرائيل تتحكّم بالسياسة الأميركية. من يرفض المقولة هذه الصهاينة بالدرجة الأولى، فضلا عن التحليل العقلاني لتاريخ العلاقة بين أميركا والصهيونية قبل قيام الدولة العبرية وبعدها، غير أن العالم العربي والإسلامي، المعادي لأميركا والموالي لها، يتبنَّى المقولة بشكل متطرّف غير عقلاني. يتجلّى ذلك بالانبطاح أمام "صفقة القرن" التي رتبها الفتى الصهيوني، جاريد كوشنر، حاليا، وشعارات "الموت لأميركا الموت لإسرائيل" التي رفعتها الثورة الإسلامية في إيران، واستمرت في صرخة الحوثي "الموت لأميركا واللعنة على اليهود والنصر للإسلام".

في الواقع لا حليف لأميركا أفضل ولا أوثق من إسرائيل. تاريخيا ظلت جبهةً متقدمةً لها في مواجهة الاتحاد السوفييتي والأنظمة الموالية له، وهي جزءٌ فاعل في الانتخابات الأميركية. في المقابل، لا مصالح متطابقة بينهما في قضايا كثيرة، والمثال الأوضح على ذلك قضية الجاسوس بولارد، الذي ظل ملفا عالقا بين البلدين، بعد اعتقاله بتهمة التجسس على أميركا لصالح إسرائيل. وأخيرا اتضح، في عهد أوباما، الشرخ في الموقف من صفقة النووي مع إيران التي عارضتها إسرائيل علانية.

في وجود كوشنر، بدت المقولة اللاسامية واقعية، فالبوابة الإسرائيلية التي دخل منها عبد الفتاح البرهان بلقائه مع نتنياهو العقوبات على السودان التي رفعت بعد شهر من اللقاء، وموقف عبد الفتاح السيسي المتواطئ مع صفقة القرن قبض ثمنه في الموقف الأميركي المساند له في المفاوضات مع أثيوبيا بشأن سد النهضة، والمغرب كذلك في ملف الصحراء الغربية. قبل ذلك كان "صمود" بشار الأسد في وجه الثورة مرتبطا باللوبي الصهيوني الذي يخشى قيام نظام ديموقراطي في سورية مهدّد لإسرائيل.

ولعل الموقف الأبرز كان السعودية، فانقلاب محمد بن سلمان على ولي العهد محمد بن نايف، الذي كان يُنظر له باعتباره الحليف الأوثق لأميركا في ملف مكافحة الإرهاب، اعتمد على علاقته بكوشنر والتزامه بالتطبيع، ولو سرّا، مع الدولة العبرية. لم يكتف كوشنر بدعم وصوله إلى ولاية العهد، وتربعه حاكما فعليا للسعودية، بل تمكّن من حماية بن سلمان من العواصف التي هزّته، اغتيال الصحافي جمال خاشقجي وحرب اليمن واعتقال الناشطات وغير ذلك.

ظلت الإمارات، وعبر سفيرها في واشنطن، يوسف العتيبة، عرّاب كوشنر بخاصة، والصهيونية بعامة، وهي التي أهلت محمد بن سلمان في واشنطن، وسفارتها في واشنطن التي يعمل فيها نحو 300 موظف بميزانيات مفتوحة ظلت تعمل باستراتيجية السفارة الإسرائيلية، تحت عناوين محاربة الإرهاب ودعم صفقة القرن. ولا يوجد مركز تفكير، أو مؤسسة معادية للعرب والمسلمين وموالية للصهيونية، إلا ويحظى بدعمها السخي. لم يتوقف دور الإمارات في تأهيل السعودية من البوابة الإسرائيلية. وتمارس الدور ذاته مع خليفة حفتر ومع البرهان وقبلهما مع السيسي وبشار الأسد، وقد بدا أن استراتيجيتها تؤتي ثمارها.

ذلك الواقع، بما يعرف من تفاصيله وما يخفى، لا يصمد أمام التاريخ الذي يجدر بكل سياسي أن يكون تلميذا في مدرسته. أميركا ليست كوشنر، ومصالحها تقودها مؤسسات واستراتيجيات قادرة على الفرز بين مصالح أميركا المتطابقة مع الحليف الإسرائيلي والمصالح التي تتعارض معها. في التاريخ القريب، رأينا كيف ختم أوباما عهده بدعم موقف أممي معارض للاستيطان الإسرائيلي، وترك وراءه إرث الاتفاق النووي مع إيران، والذي لا يزال هو القاعدة في علاقات البلدين، حتى في ظل اضطراب سياسة ترامب. في النهاية، لن تخوض أميركا معركة إسرائيل مع إيران، ولا مصلحة لها في الحرب، وبدا ذلك واضحا عقب اغتيال قاسم سليماني. ترامب لا يريد حربا مع إيران، لأن لا مصلحة أميركية في ذلك، ولو كان كوشنر على يمينه.

في تركيا، ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، تراجعت العلاقات التركية الإسرائيلية استراتيجيا. وإلى اليوم، يرى الصهاينة في البيت الأبيض والكونغرس والإعلام في أردوغان عدوّا يتقدم على إيران، لكن ذلك لم يقلل من الأهمية الاستراتيجية لتركيا، وشهدنا كيف باع ترامب الحلفاء الأكراد في عملية "نبع السلام" وما تلاها.

ربما يدرك الحكام العرب، ولو متأخرا، أن أميركا ليست وكيل إسرائيل، ولا تخوض معاركها. ولو صحّ ذلك لبقي شاه إيران في الحكم، وبعده حسني مبارك. البوابة الحقيقية لواشنطن هي قوتك سياسيا واقتصاديا وعسكريا، هي ما تحقق مصالح مشتركة تحرص أميركا عليها، وتحترم مواقفك المختلفة معها.