العدد 1412 / 6-5-2020

بقلم : نواف التميمي

من حقنا أن نغضب ونحتجّ على هذا السيل من الإعلام الأصفر الذي يقتحم بيوتنا بخطاب إعلامي يجرّنا من غرف نومنا إلى حضن الاحتلال. من حقنا مقاطعة الإعلام الذي يروّج التطبيع مع الاحتلال الغاصب، متجاهلاً، مع سبق الإصرار والترصد، كل الاعتداءات التي مارسها ويمارسها هذا الاحتلال ضدنا، فرادى وجماعات، على امتداد الخريطة العربية. ولكن، لا ينبغي لأي منا الاندهاش، أو التظاهر بالصدمة مما يرى ويسمع، ولا يجب إغفال أن هذه الجائحة الإعلامية ليست وليدة اللحظة، أو ابنة الظرف الراهن. بالنظر، إلى الوراء قليلاً، والتمعن في بعض المياه التي جرت تحت فضاء الإعلام العربي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، يمكن القول، بكل موضوعية، إن خطاب التطبيع ليس إلا قمة جبل الجليد، أما جذر الجبل فيضرب عميقاً إلى سنوات خلت، أحدثت طوالها معاول التخريب دمارا كثيرا في وعي المتلقي العربي.

بالرجوع إلى تسعينيات القرن الماضي، بداية انتشار موضة القنوات الفضائية العربية، عمدت السعودية، وشركاتها الرائدة في مجال الاستثمار الإعلامي، إلى إغراق الفضاء بعدد كبير من القنوات الفضائية ذات الدعائي الموجه. وخلال سنوات قليلة، كان الفضاء العربي يعجّ بسيل جارف من القنوات، منها ما تخصص في تعميق الشرخ الطائفي، ومنها ما انفرد بترويج خزعبلات التنجيم والعلاج بالأعشاب والحجُب المقدّسة، بينما راحت قنوات أخرى تغسل أدمغة الشباب العربي بمضامين غريبة تستوردها من المكسيك والولايات المتحدة، وحتى من أستراليا وتركيا. وفي المحصلة، لم يكن الغرض من هذه المحطات، أو الباقات، كما كانت تُسمى، سوى حرف النقاش في المجال العام العربي بعيداً عن القضايا المركزية، وصرف الجمهور نحو مضامين تُنتج تحت بدعة "الجمهور عايز كدا".

ولملء هواء مئات المحطات الفضائية، راح المال الخليجي يضخّ ملايين الدولارات لإنتاج أو شراء حقوق برامج ترفيهية هابطة لشغل الحيز الإعلامي بضجيج فارغ، أولاً، ثم إغلاق هذا الفضاء أمام أي محاولاتٍ جادّة لإنتاج محتويات إعلامية هادفة. أنفقت هذه المؤسسات الإعلامية ، في العقد الأخير من القرن الماضي، أموالا طائلة على برامج المسابقات والطبيخ والموضة وتفريخ نجوم الطرب والرقص، من دون أن يُسجّل لها أي إنتاج يرفع من القيم الاجتماعية أو الثقافية للجمهور العربي المتلقي. بل ظهرت هذه المشاريع الإعلامية وكأنها تتربّص بالوعي العربي، وتسعى إلى تمييع الفضاء العام، وتلويث تربته، حتى لا تنبت فيه أي فسيلة صالحة.

ومع حلول عصر الإعلام الإلكتروني، توجّه المال ذاته إلى إيجاد مئات المنصات الإعلامية، وتزييف آلاف الحسابات الإلكترونية الوهمية لإغراق المجال العام الإلكتروني بذباب مسموم، يبث الشائعات والأخبار الكاذبة، ويبشّر بزمن التآخي مع الحليفة إسرائيل. ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، سَعَت دول "الضد" إلى صناعةِ قادة جُدد للرأي العام، أطلقت عليهم "المؤثرين"، فتحت لهم المنصّات الإلكترونية، وأوكلت إليهم مهام إيهام الرأي العام، وإشغاله بمواضيعَ جانبية وهامشية، تريحه من قرف همومه اليومية والمعيشية.

في المحصلة، يتضح أن ما نشاهده هذه الأيام من مضامين إعلامية موجهة ما هي إلا حلقة في مسلسل بدأ منذ ثلاثة عقود على الأقل، أنفقت فيه دول عربية ملايين الدولارات لخنق الرأي العام العربي، وتطويقه، حتى لا تقوم له قائمة. ما نراه اليوم هو مجرّد حلقة في سلسلة كي الوعي العربي، وهندسة الجمهور العربي، ليتحول إلى قطيع أو قطعان. مسلسلات التطبيع التي نشاهد هذه الأيام حلقاتها المتعاقبة، ليست إلا رشقة عابرة سبقتها موجاتٌ من التمييع والإغراق والسلب والاستلاب استهدفت أجيالنا. لا يقل خطر مسلسلات التطبيع عن فداحة برامج التخدير والترفيه الرخيص، ولا تقل هذه الأخيرة فظاعة عن برامج غسل الأدمغة بمحتوياتٍ تُزَوِر تراثنا، وتُزيف حاضرنا، وتَستنزف مستقبلنا. ستمرّ الموجة الراهنة، مع نهاية الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل أو ذاك، لكن الأخطر أن تتمدّد منصات تجريف العقل، وكي الوعي، والتلاعب بالجماهير.