العدد 1421 / 15-7-2020
خالد الخاطر

أدى صعود قطر الاقتصادي مع تغير القيادة السياسية في أواسط التسعينات، إلى تعزيز استقلالية قطر السياسية، وهو ما شكل مصدر إزعاج لعدد من أقطار الخليج ذات النزعة الموروثة نحو بسط الهيمنة وفرض التبعية السياسية على دول مجلس التعاون، ثم اتسعت الهوة بين الطرفين بشكل لم يسبق له مثيل بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وتباين مواقفهما منها، ودعم قطر لتطلعات الشعوب في الحرية والكرامة والعيش الكريم.

وتاريخيا، كان لقطر خط مميز عن جيرانها في علاقاتها الخارجية يتسم ، بالمحافظة على علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية في إطار التمسك بالثوابت العربية والإسلامية، وتعزز ذلك منذ أواسط التسعينات مع تغير القيادة في قطر بوصول الأمير الوالد لسدة السلطة، وما واكب ذلك من صعود البلاد كقوة اقتصادية، مع ثورة الغاز الطبيعي المسال الذي تربعت على عرش صناعته عالميا، بالإضافة إلى طفرة النفط منذ بداية العقد الماضي.

أدى كل ذلك إلى تحولات هيكلية في الاقتصاد القطري، فارتفعت صادرات قطر ومداخيلها من مواردها الهيدروكربونية بشكل لم يسبق له مثيل، وأخذت في بناء احتياطياتها الأجنبية واستثماراتها الخارجية، وعلاقاتها الجيو-اقتصادية، وبنت اقتصادا قادرا على الصمود في وجه الأزمات، وأصبحت الأعلى في دخل الفرد، والأسرع نموا في العالم. وبذلك فقد تزامن صعود قطر السياسي والاقتصادي.

استهدف حصار قطر أن يحد من ذلك كله، ولكنه أتى بنتائج عكسية. فعوضا عن أن يضعف الاقتصاد القطري، أدى إلى تقويته، وإلى الدفع نحو مزيد من الاعتماد على الذات، والتنويع بالضرورة (في الإنتاج والاستيراد والشركاء الاقتصاديين)، ومعالجة أوجه القصور والخلل، والحد من الانكشاف على دول الحصار، والانكشاف أكثر على دول العالم، والمضي قدما في بناء اقتصاد قوي بمعزل عن جيران لا يمكن الوثوق بهم لتجنب التعرض للصدمات وزعزعة الاستقرار الاقتصادي مستقبلًا.

هل كانت دول الحصار مهيأة لفرضه وهل كانت قطر مستعدة له؟

نستطيع القول إن دول الحصار لم تكن مهيأة لفرض حصار فعال على قطر نظرا لضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول مجلس التعاون، وإن قطر كانت مستعدة تلقائيا لمواجهة الحصار نظراً لصلابة اقتصادها.

أولًا: الضعف البنيوي لاقتصادات دول الحصار

إن انكشاف الاقتصاد القطري على دول الحصار يبقى محدودا، بسبب فشل التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الذي ظل يراوح مكانه لعقود. وسبب فشل التكامل الاقتصادي هو عدم توفر الإرادة السياسية لدى دول المجلس، وعدم تنوع الاقتصادات الخليجية. وفشل التنويع الاقتصادي هو أيضا بسبب عدم توفر الإرادة السياسية الجازمة على مستوى هذه الدول.

ولذلك فإن فشل التكامل الاقتصادي الخليجي، أفشل حصار قطر. إذ لا تتوفر لدول الحصار الأدوات الاقتصادية اللازمة لفرض حصار فعال على قطر، أو الضغط عليها، لا من خلال الحصار التجاري، ولا المالي، ولا الصناعي، ولا في مجال الطاقة، فلم يبق إلا الحصار الجوي والسياحي نظراً لظروف الجغرافيا فالتجارة البينية بين دول المجلس ظلت ضعيفة وتراوح مكانها عند %10 لعدة عقود، بسبب فشل هذه الدول في تنويع اقتصاداتها. فهياكل الإنتاج فيها ضعيفة ومتشابهة، إذ يتخصص الجميع في استخراج نفس المورد (النفط)، وتصديره للعالم، ويستوردون في المقابل ما يحتاجون إليه من سلع استهلاكية ورأسمالية وعمالة، عبر البحار والأجواء الدولية المفتوحة. لذلك لا يوجد مجال هنا للضغط على قطر من خلال الحصار التجاري.

كانت هناك بعض التركزات في استيراد بعض المواد من أو عبر دول الحصار إلى قطر، كمنتجات الألبان والدواجن وبعض المنتجات الأخرى، ولكن كان يمكن سد هذه الثغرة بسهولة عبر الإنتاج محليا أو عبر الاستيراد من مصادر بديلة أو مصادرها الاصلية، وهذا ما حدث بالفعل. ومن أمثلة ذلك، عرقلة التكامل في مجال المواصلات، بإفشال مد جسر بين قطر والبحرين، وقطع التواصل البري بين قطر والامارات، وفِي مجال الطاقة، برفض ربط دول المنطقة بمحطة توليد عملاقة للطاقة الكهربائية تزود بالغاز القطري، وعرقلة تسويق الغاز القطري على المستوى الخليجي، الذي أدى إلى فتح الأفق واسعا أمام تسويقه على المستوى العالمي. فأصبحت قطر عملاقا في الطاقة والمنتج والمصدر الأول للغاز الطبيعي المسال في العالم، إذ تمده بثلث احتياجاته منه. فأصبح استقرار قطر مهما لإمدادات الطاقة ولاستقرار سوق الغاز العالمية، وللاستقرار والنمو في قوى اقتصادية وسياسية مؤثرة حول العالم. فتأثير الدول وأهميتها لا يقاس دائما بالحجم.

ثانيا: صلابة الاقتصاد القطري

وهنا يمكن الإشارة إلى نوعين من السياسات أديا إلى فشل الحصار:

1. سياسات اقتصادية كلية سليمة قبل فرض الحصار

2. سياسات اقتصادية سليمة مضادة للحصار

السياسات المضادة للحصار

وللمزيد من الإيضاح فقد تبنت قطر نوعين من السياسات المضادة للحصار، الناجحة بامتياز بشهادة جهات دولية مستقلة:

١-سياسات في الأجل القصير لمواجهة أثر الصدمة وتعزيز استقرار قطاع الاستيراد والقطاع المالي، من خلال الدعم والتدخل المباشر وتحويل خطوط ومصادر الإمداد الى وجهات بديلة، وتوسعت الطاقات الاستيعابية لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي لضمان تدفق السلع بالأسعار المناسبة للمستهلك، والتدخل بضخ سيولة في القطاع المالي للتعويض عن خروج رؤوس الأموال ولتعزيز استقرار العملة والاستقرار المالي. وأدت تلك السياسات إلى مرونة أكبر في الاستيراد وتنوع أكثر في الإنتاج وانكشاف أكبر على العالم وأقل على دول الحصار، فأحبطت الحصار، وأدت إلى المزيد من القوة الاقتصادية ومن ثم إلى المزيد من الاستقلالية السياسية.

٢-سياسات على الأجل المتوسط إلى الطويل، تركزت حول تنويع الاستيراد والإنتاج وتقوية علاقات قطر الجيو-اقتصادية. ففي القطاعين الحقيقي والخارجي، تبنت قطر مجموعة من السياسات لدعم الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعات الخفيفة وجذب السياحة والاستثمار، وتنويع الشركاء التجاريين، ومراكمة الاستثمارات الخارجية، ويبقى قطاعا النقل والسياحة الأكثر تضررا بالحصار نظرا لظروف الجغرافيا، وقد تبنت قطر سياسات لجذب السياحة ودخلت في شراكات مع بعض خطوط الطيران العالمية الاخرى.

وجاءت أزمة كورونا كاختبار لقطر ما بعد الحصار، فأتى تدخل الحكومة سريعا وفِي الوقت المناسب، بتوفير حزم الدعم والإنقاذ لمواجهتها، وسيكون لهذا أثره في تعزيز الاستقرار الاقتصادي وسرعة التعافي بعد انحسار الوباء، كما أن الدولة صارت مهيأة بشكل أفضل لامتصاص صدمة كورونا، بفضل رفع كفاءة قطاعات، كالإمداد اللوجيستي والأمن الغذائي، والإنتاج الزراعي والحيواني، بالإضافة إلى الاستقرار النسبي لمداخيل الغاز الطبيعي. هذه العوامل أعطت قطر أفضلية نسبية على جيرانها في التصدي لجائحة كورونا والحد من آثارها على الاقتصاد والمجتمع، مع تحييد نسبة وعوامل تفشي الوباء جانبا. فحصار قطر كان صدمة لها جوانب إيجابية، منها أنه أعد قطر بشكل أفضل لإدارة الأزمات، وأدى إلى تفجير الطاقات الكامنة، من موارد بشرية وطبيعية.