العدد 1430 / 30-9-2020
بحري العرفاوي

تشهد الساحة الإعلامية والسياسية هذه الأيام في تونس جدلا واسعا، بعد عريضة المئة قيادي في حركة النهضة يطالبون فيها الأستاذ راشد الغنوشي باحترام الفصل 31 للقانون الأساسي الداخلي للحركة، ويدعونه إلى الالتزام بعدم الترشح لرئاسة الحركة في المؤتمر القادم، كما أسهمت رسالة رد الغنوشي في تغذية الجدال بسبب أسلوبها الذي بدا حادا وحاسما على غير عادته في مخاطبة المخالفين والخصوم.

فما هي طبيعة وخلفيات هذا الخلاف بين دعاة "التداول" والغنوشي وأنصاره؟ وهل المسألة مجرد خلاف على كيفيات إدارة شؤون الحركة، أم هو خلاف في الرؤى والتصورات والأهداف؟

1- معارك البلاء وتزاحم الرخاء

لقد ظللت أنظر للإسلاميين دائما على أنهم أبناء حقل واحد يختلفون في كيفيات التحرك عليه والاستثمار فيه، لم أعتبر اختلافاتهم صراعا أو تناقضا ولا عداوات. فالنهضويون وجماعة حزب التحرير والإسلاميون التقدميون وجماعة الدعوة والتبليغ؛ كلهم حافظوا على علاقات معهم جيدة قوامها التقدير والاحترام والتعامل المتحضر، وهو مبدأ التزمته مع كل الناشطين السياسيين والنقابيين والإعلاميين والمبدعين، أحرص على توسيع مساحات التعاون وأتجنب أي خطاب يورث عداوات وأحقادا.

حين تكون معركة بين المنتصرين للحرية والاستبداد، فإنني أكون دائما في صف أشواق الحرية ولا يعنيني إن كان طلابها إسلاميين يساريين أو عروبيين من ساسة ونقابيين ومثقفين، ونصوصي مدونة في كل محطات النضال ضد الاستبداد.

لم أكن أنتبه إلى وجود "اصطفافات" داخل حركة النهضة بين "الداخل" و"الخارج" أو بين جماعة "الشيخ" وجماعة "الماكينة"، كنت حين أُعلي من شأن الأستاذ راشد أعتبرني أعلي من شأن حركة النهضة، وحين أمتدح الدكتور عبد اللطيف المكي أو المهندس علي العريض وآخرين؛ أعتبرني أدعم رصيد الحركة كلها.

صُدِمت أكثر من مرة حين علق البعض بسلبية على موقفي الإيجابي من المكي أو من العريض أو من الغنوشي، بدأت أطرح سؤالا: هل ما زالت الجماعة تحمل مشروعا أم هل أصبح لكل مجموعة حساباتها؟

كتبت تدوينات برقية تجنبت التفصيل فيها، ومنها قولي:

في البداية كنت وحدي / ثم صرت في جماعة / بعدها صرنا جموعا/ ولكل منا ساعة.

أنا مع من؟

أنا مع الجميع، أعمل على أن يكون الكل في مواجهة مخاطر عودة الاستبداد والظلم والإقصاء والأذى، لا يمكنني احتمالُ صراع بين ضحايا الاستبداد (كل ضحايا الاستبداد)، ناهيك عن أن يكون صراعا بين الذين نالوا الحظ الأوفر من الأذى، ودفعوا الثمن الأكبر من أجل الحرية والكرامة والعدالة.

أغلب قيادات النهضة هم بين صديق وأخ، وليس بيني وبينهم إلا التقدير والمحبة، جالست أغلبهم مرات، وأعرف كيف يفكرون وفيما يفكرون، وهم ليسوا منسجمين حول رؤية متكاملة، إنهم يختلفون طباعا ومستويات تحليل وبيان. الأستاذ راشد الغنوشي الذي جالسته وسهرت معه ليالي في سويسرا؛ عرفت فيه الإنسان المتواضع والرجل العميق.

أنا أميّز جيدا بين معركة أبناء النهضة ضد مخاطر تتهدد وجودهم، حيث يجب أن أصطف، وبين تنافس أبناء النهضة في ما بينهم، حيث لا يجب أن أصطف.

2- معركة التقديرات

عريضة الـ100 الموجهة إلى الأستاذ راشد الغنوشي كانت ذات مضامين راقية وصيغت بلغة رائعة، وفيها دفاع عن "قيم" لا يعترض عليها أي مؤمن بسنّة التطور والتجدد، وأي مؤمن بجدوى التداول ومزايا الديمقراطية.

أغلب الممضين هم من جيل الحركة الطلابية، وهم بالتأكيد يجدون أن طاقاتهم معطلة وزمنهم مهدور وفرصهم ضائعة، هم بالتأكيد يلاحظون أن قواعدهم تتسرب من بين صفوف حركتهم، وتنجذب نحو خطابات تشتغل على سقوف عالية وتسد فراغات تركتها سياسات "التوافق" وخطوات "التراجع" و"التنازل".

حركة النهضة فعلا تخسر من جمهورها الكثير، ومناضلوها تصغر صورتهم أمام ضحايا الاستبداد والمسكونين بأشواق الحرية والعدالة والكرامة. مناضلو حركة النهضة من جيل التأسيس ومن جيل الحركة الطلابية يجدون كما لو أن "الزعيم" يحجب عنهم المستقبل.

ثمة خطابان يتهددان مستقبل الدولة التونسية، إنهما: الخطاب الشعبوي يرفعه حديثو عهد بالسياسة ولا تاريخ نضاليا لهم ولا تجربة سياسية، خطاب متطرف استئصالي يريد أصحابه الانتقام لزعيمهم الذي هرب وتركهم يواجهون مصيرهم سنوات، وكلا الخطابين يجتذبان جمهورا يزداد اتساعا.

الروح الثورية تنتصر لمطالب الـ100، يريدون إنقاذ المستقبل من أن يغرق في عبث الشعبوية الواهمة أو أن تختطفه القصووية الداهمة.

هل يحتاج راشد الغنوشي سلطة كي يحقق توازنه النفسي؟ هل تهون عليه نفسه فيتحمل كل ذاك الأذى في البرلمان من أجل أن يكون رئيسه؟ هل يُتَوقعُ منه أن يتنكر لمبادئه وأفكاره وتنظيره للديمقراطية، فيتمسك برئاسة الحركة ويرفض مبدأ التداول، ويعطل فصلا من قانون أساسي لحركة دفع لأجلها من راحته وأمنه وعمره الكثير؟

3- نقاوة المبادئ وأوحال الطريق

هل يكفي تفسير عريضة الـ100 بكونها تعبيرا عن استعجال أصحابها "أفول" نجم زعيم حركتهم؟ وهل يكفي فهم موقف الغنوشي بكونه حريصا على البقاء في "المنصب" حبا فيه وشهوة؟

الحكم على النوايا في السياسة هو فعل الكسالى ذهنيا أو فاسدي النوايا تحديدا، فعالم السياسة عالم متحرك ومعقد ، لا يمكن معه الاشتغال على النوايا الحسنة أو السيئة، لا يمكن التشكيك في نضالية ومبدئية دعاة التداول من أصحاب العريضة، فهم من ذوي التاريخ النضالي المشرف، وهم من أصحاب الفكر والبيان والمواقف والغيرة على الحركة وعلى الوطن، كما لا يمكن النيل من علو مكانة الأستاذ راشد ورفعة مكانه ووفرة إمكاناته وثراء فكره ورحابة صدره وغزارة تضحياته، فلا يليق وصمه بالضعف أمام شهوة السلطة، مع أنها حالة بشرية تتلبس أغلب من جرّب الحكم ومارس التحكم.

"يرفض" الغنوشي أو "يتردد" في تسليم المقود لغيره سواء ممن قد يُصَعّده المؤتمر القادم أو ممن قد يتم "التوافق" حوله؟ هل يخشى الغنوشي تفلّت زمام الحركة من بين يديه؟ هل يخشى على مستقبل الحركة بدون قيادته؟ هل يخشى على التجربة الديمقراطية في تونس؟

والسؤال الأكثر جدية وإحراجا: أين تنسَج مواقف الغنوشي في الملفات الوطنية والإقليمية؟ لماذا تُصَبّ ُحمم خصوم الداخل والخارج على أمّ رأس الغنوشي تحديدا؟

4- عوامل الاختلاف داخل حركة النهضة

الاختلافات داخل حركة النهضة ليست متعلقة تحديدا بالمؤتمر 11 وبالفصل 31 من النظام الأساسي الداخلي للحركة، بل هي اختلافات قديمة متراكمة ربما تعود حتى إلى عملية تقييم الأداء في أثناء الصراع مع ابن علي، وتحميل المسؤوليات وتحملها في ما حدث. ما شهدته تونس طيلة العشرة أعوام من سخونة سياسية واضطرابات أمنية وتداخل بين الداخل والخارج، هو الذي جعل "الجميع" يؤجلون "فتح الكتاب" والمطالبة بـ"الحساب".

صدمات الاغتيالات أحدثت ارتجاجا نفسيا وذهنيا عند جمهور النهضة ومناضليها وزعمائها، لكونهم كانوا مستهدفين بتلك العمليات. تلك الأجواء الساخنة أفرزت ريادة الأستاذ راشد الغنوشي في إدارة المعركة، وفي تحسس مسالك "النجاة" من الفوضى أو الحرب الأهلية أو السيناريو المصري، كانت كل الشروط متوفرة لتحقق إحدى الفرضيات الثلاث المؤلمة.

قولة الغنوشي يومها في لقاء داخلي: "نحن في ركن آمن من سفينة لا نعلم أين تتجه"، وقوله تحت كابوس يلف البلاد ويتلبس الأنفس: "من يمارس السياسة عليه أن يكون له جلد تمساح". قولتان يمكن للمحلل أن يبني عليهما فهما لما كان يحصل، أيضا فهما لكون الرجل لم يكن يمارس التجريب السياسي ولا كان يتحرك بعيدا عن توجيهات "الساتيليت".

علينا تحرير الديمقراطية من كونها "استيعابا وتوجيها" إلى أن تكون ديمقراطية الإرادة الوطنية، ومن كونها ديمقراطية الاستعراض الانتخابي إلى تحقق جوهرها حين تتجاوز كونها طوابير أمام صناديق الانتخاب، لتكون ممارسة واعية للحرية السياسية والثقافية وتحقيقا للعدالة الاجتماعية، وحين يعتد بنتائج الانتخابات في تمكن الفائزين من ممارسة السلطة بعيدا عن تدخل الإرادة الخارجية في تكييف النظام السياسي، أو في فرض أسماء معينة في مواقع معينة، أو في الاعتراض على أسماء من داخل أحزاب فائزة لتولي وزارات في حكومات.

ليس في الأمر نيل من وطنية أي شخص، فنحن لسنا دولة عظمى ولسنا نحقق اكتفاءنا الذاتي من الغذاء والدواء ولعب الأطفال وزينة النساء وسراويل الرجال، نحن محتاجون لقروض ومساعدات ومعلومات عن الجغرافيا التي نقيم عليها وعن ثرواتنا الباطنية، وحتى عن أبنائنا الذين يتمردون علينا وعلى "أصدقائنا" من دول "الحماية" والرعاية والعطايا.

5- النظر إلى السقف وتحسس

حين تعرض الأستاذ راشد الغنوشي إلى حملة تشويه وترذيل، وحين تجندت أطراف عدة لسحب الثقة منه في البرلمان، تجند أغلب زعماء النهضة للدفاع عنه باعتباره زعيما للنهضة وزعيما وطنيا، وليس فقط لكونه رئيسا للبرلمان.. من بين تلك الأسماء من هم في قائمة "عريضة التداول".

أن تكون العريضة متزامنة مع الحملة ضد الغنوشي، لا يعني أن أصحابها متحالفون مع زيد أو عمرو ضد زعيم النهضة، وإنما هو المشهد السياسي مزدحم بالأحداث والوقائع.

أليس من "السذاجة" توقع "نهاية" الغنوشي لأي سبب ولأي تبرير ولأي أولوية؟ ثم أليس من "الغباوة" توقع "نهاية" المكي أو ديلو أو العرباوي أو بوبحري أو السوداني لكونهم دافعوا عن مبدأ التداول واحترام فصل في قانون أساسي داخلي؟

6- من توافق مع البُعداء فهو مع الأقرباء أقدر

في أثناء كل خصومة، تقع أعين الجميع على المنطقة الوسط، ومهما احتدت الخصومات فثمة نزوع دائم نحو التسوية. كل خصومة هي مشتركة ولكل فيها قدر من المسؤولية.

إن حركة بحجم وعراقة وخبرة ونضالية حركة النهضة لا يمكن أن يتلاشى بنيانها لسبب من الأسباب، حتى وإن كان بمستوى الخلاف حول التمديد أو عدم التمديد للزعيم المؤسس وصانع السياسات راشد الغنوشي.

هل خلاف مجموعة الـ100 مع الغنوشي هو خلاف في الرؤية السياسية؟ أم في المنهج السياسي؟

الرؤية السياسية لم تعد خاصية حزبية في واقع متحرك تلهث فيه كل الأحزاب وراء الأحداث، وتنازلت فيه عن الأيديولوجيات والنظريات الجاهزة، وتحولت إلى ما يشبه مؤسسات إدارة أزمات. أين الاختلاف إذا؟

ما يقوله عدد من زعماء النهضة ممن يقولون إنهم يختلفون مع الغنوشي؛ هو نقد متعلق بمنهج الحكم والتحكم من نوع "احتكار المجد" أو "التفرد بالتفاوض"، أو "تقريب الموالين" و"استبعاد أصحاب الرأي" و"معاقبة المنتقدين"، أو "وضع اليد على الخزينة".

سبق أن نشرت مقالا بعنوان "الغنوشي، خط الدولة داخل حركة النهضة"، ومفاده أن ما يبدو تنازلات وتراجعات وحتى ضعفا في سياسات الغنوشي؛ إنما هو أشبه ما يكون بـ"وصفات" لمعالجة واقع رديء، ولمداراة مسار معطوب ومسيرة متعثرة ثقيلة.

تحتاج الأحزاب الكبرى جناحين، يغوص أحدهما في أوحال الواقع، يحركه ويشق فيه مسارب للحركة والفعل والتأثير، ويتحرك الآخر باتجاه المثل والمبادئ ويشير إلى مستقبل أرقى وأنقى يريد أن يطير باتجاهه.

سيسألني القارئ: في النهاية أنت مع "التداول" أم مع "التمديد"؟ وجوابي: أنا مع "التوليد".