العدد 1480 /29-9-2021

علي أنوزلا

الرئيس التونسي قيس سعيّد حالة تستعصي على الفهم، فهو محافظٌ في طريقة تفكيره، وثوري في ممارسته عند مواجهته الفساد والمفسدين. قاموسه اللغوي ينهل من مرجعية إسلامية تقليدية، لكنه منذ وصوله إلى السلطة شيطن الإسلاميين، وحولهم إلى هدف لمنصّات "صواريخه القانونية". هو مع "الربيع العربي" عندما يتحدّث عن أوضاع الناس الاجتماعية، ويذكّرهم بمن كان السبب في فقرهم وبؤسهم، وضد الربيع وشعاراته، عندما يتعلق الأمر بحرية الناس في النقد وحقهم في التظاهر. دكتاتور في تصرفاته وقراراته، وديمقراطي يحترم الدستور والقانون في تصريحاته. مُخَلِّص ومُنقذ ودكتاتور ومستبد في الآن نفسه. بسيط في تفكيره وطرحه وغامض عند صمته ولحظة تجهّمه وعبوسه. لا يتوانى في التعبير عن احترامه الدستور، ولا يتردّد في اتخاذ قرارات وتوقيع مراسيم لا علاقة لها بروح الدستور الذي يقسم بأغلظ أيمانه أنه يحترمه ويطبقه!

حالة قيس سعيّد تستدعي التحليل النفسي أكثر من التحليل السياسي. ظاهرة صوتية رديئة تحاول تقليد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وصورة مشوّهة من تخبط الزعيم الليبي معمر القذافي ومزاجيته. حتى الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، لم يذهب به تسلّطه وتجبّره إلى هذا الحد من جنون العظمة والرغبة النرجسية في الاستحواذ على السلطة. كائن سياسي غريب، غير نمطي وتقليدي في آن، يحبس نفسه داخل مربع من الألغاز التي يصعب فك رموزها. هو السلطة والدولة، وهما معاً يتجسّدان في الأنا المتضخمة للرئيس الذي يسير على طريق الملك الفرنسي لويس الرابع عشر الذي كان يقول "أنا الدولة والدولة أنا".

كل يوم يعطي الرئيس سعيّد لنفسه صلاحيات استثنائية. ومع كل قرار ينحرف أكثر فأكثر عن الدستور، ويقترب أكثر فأكثر إلى أن يعود بتونس إلى وضع ديكتاتوريةٍ لا تعلن عن اسمها. رئيس منتخب ديمقراطياً، ويحكم بمرسوم وقعه بنفسه ليتولى جميع الصلاحيات التنفيذية والتشريعية، وحتى القضاء كان يريد أن ينصّب نفسه رئيساً لنيابته العامة. منذ قراره حل البرلمان والحكومة في يوليو/ تموز الماضي، كان واضحاً أن توجّه الرجل ليس إصلاحياً، وأبعد ما يكون ديمقراطياً. ومنذ إعلان "انقلابه الدستوري" وهو يقود بلاده نحو دكتاتورية شعبوية ديماغوجية رثّة بائسة، فهو كما يقول التونسيون قاد أسوأ انقلاب، وسيفشل في إقامة أسوأ دكتاتورية.

باختزال كبير، قيس سعيّد هو نتاج هذا التناقض الصادم بين الديمقراطية على الورق، التي أسستها الثورة عام 2011 وأشاد بها العالم، والحياة الواقعية الصعبة التي يعيشها التونسيون بسبب الفقر وتفشّي الفساد وانتشار البطالة، فبعد عشر سنوات من قيام الثورة، تشعر التونسيات والتونسيون بخيبة أمل إزاء الانعكاس السلبي لتأثيراتها على حياتهم وظروفهم المادية المزرية، ويقرّرون منح أصواتهم لرجلٍ نكرة، أستاذ مغمور لم يُسمع له أي صوت يدافع عن الديمقراطية في عهد دكتاتورية بن علي، لكنه يريد أن يفرض نفسه اليوم المترجم الوحيد لرغبات الشعب والناطق الرسمي باسم إرادته. ومن أجل ذلك، لا يتخلص فقط من إرث الثورة التونسية، وإنما يفكّك أسس الدولة التونسية باعتبارها البلد الوحيد الذي نجت فيه ثورة "الربيع العربي" من رياح الثورات المضادة.

انقضى عامان منذ تولى سعيّد مقاليد الحكم في البلاد، وكل يوم يمرّ يعزز قبضته على السلطة، ويضفي الطابع الرسمي على انقلابه، من خلال إصدار أحكام ومراسيم استثنائية تعزّز سلطاته، وتفرض القبول بدكتاتوريته أمراً واقعاً مفروضاً. وبعد شهرين من التخبّط والفوضى في إصدار المراسيم وانتقاد الدستور، استيقظ التونسيون على خطر عودة الدكتاتورية التي بدأت تتسرّب إلى بلدهم، عبر مراسيم تسنّ في ساعاتٍ متأخرة من الليل، فقرّروا مواجهة جدار الاستبداد هذا، بالنزول إلى الشوارع، قبل أن تُسدّ أمامهم كل منافذ الاحتجاج ضده. وحتى الطبقة السياسية التي ظلت حذرةً في انتقادها دكتاتورية سعيد طوال الشهرين الماضيين، لإدراكها أنها فقدت مصداقيتها في نظر أغلبية كبيرة من مواطناتها ومواطنيها، بدأت ترفع أصواتها مندّدة بالانحراف الذي سيعيد البلاد إلى عهد ما قبل ثورة 2011.

اليوم، تعيش تونس أمام مفترق طرقٍ كبير، ما بين الانجراف نحو القمع والاستبداد والتأسيس لواحدة من أسوأ الدكتاتوريات والقبول بها باعتبارها أهون أنواع الشرّ الذي كان سيحيق بهم لو استمرّت سياسات العبث والفساد التي طبعت السنوات العشر الماضية، أو تصحيح المسار قبل فوات الأوان، والتأسيس لنظامٍ جديدٍ أكثر فاعلية يحافظ على التعدّدية والحريات الأساسية، ويضمن للشعب الحق في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. وفي ظل الوضع المأزوم الذي تعيشه تونس، حيث تواجه خطراً مزدوجاً من الاستبداد السياسي والإفلاس الاقتصادي، ليس أمام التونسيات والتونسيين مزيد من الوقت لانتظار تحقق وعود رئيسهم الغامضة والمضطربة، فهو نفسُه ما زال يتلمس طريقه، يخبط خبط عشواء، بحثاً عن مخرج للوضع الذي حشر نفسه والدولة فيه. والطريق إلى الدكتاتورية، مثل الطريق إلى الجحيم، مفروش بالنيات الحسنة. ولا يكفي الرئيس سعيّد القول إنه يحترم الدستور، ويطبق القانون، ويحارب الفساد، ويرفع يده عاليا للإشارة إلى أنها نظيفة، لإقامة حكم راشد والتأسيس لدولة عادلة. زمن الأفكار الطوباوية ولّى إلى غير رجعة، والدول القوية لا تقوم على حكم الفرد، حتى لو كان ذا شخصية قوية، وبالأحرى صاحب كاريزما مزيّفة، الدولة هي المؤسّسات، وهذه يجب أن تكون من الشعب وإلى الشعب، تمثله وتدافع عن حقوقه. الرهان الكبير، في الواقع، داخل تونس وخارجها، على مستقبل التحوّل الديمقراطي التونسي الذي يجب إنقاذه قبل إغلاق القوس الذي فتحته ثورات "الربيع العربي"، وإلا فإن الثورات المضادّة ستعلن انتصارها، ومعه تنعى موت الديمقراطية في المنطقة العربية.