مهنا الحبيل

أعادت التطورات الأخيرة في قضية استفتاء كردستان العراق طرحَ علاقة القومية الكردية بقضايا المنطقة، وبتداخلاتها السياسية الإقليمية المعقدة، وبجولات التوظيف الموسمية الأخيرة، من تواطؤ إقليمي دولي ضد انفصال الإقليم، وتواطؤ إسرائيلي وشراكة أميركية جزئية لدفعه لاتخاذ قرار الانفصال.
وهو ما يؤكد حجم التوظيفات المتناقضة للقضية الكردية التي تحولت إلى كرة نار لا تُفيد الإخوة الكرد ولا العرب، ولا أشقاءَهم الأتراك؛ وإنما يأخذُ منها اللاعبون الدوليون وغيرهم حصتهم، ثم ينقضون غزل وعودهم.
ولا بدّ من أن نؤكد حقائق مهمة تتوارى في ظل الجدل الدائر عن مسؤولية الكرد عن بعض الأزمات، وتحتاج إلى معيار منصف ينصفهم، وينصف شركاء الأمة معهم من عناصر القوميات التي رافقت الكرد في الرحلة التاريخية الإسلامية، وهم العرب والترك والفرس. والعنصر الأخير نتحدث عنه كقومية مسلمة تنتمي إلى الشرق، ونحتاج بالضرورة إلى قواعد تفاهم معها وتعايش، فضلاً عن الشراكة الفكرية التاريخية للفرس في الشرق.
لكن المشكلة تكمن في تغوّل النظام الممثل لهذه القومية في إيران، وشراسته العنصرية والطائفية التي تستثمر تهييجاته الضخمة، والمواجهات الإعلامية الطائفية أو العنصرية لم تحقق أي معادلة توازن مع إيران، وإنما محاولات تصعيد موسمي تتوسل الغرب للإنقاذ من إيران، فيما يواصل هو رهاناته البائسة -كما جرى في الخليج العربي- من جورج بوش الأب وحتى دونالد ترامب، والناتج هو كمّ هائل من الوهم يزيد العرب رهقاً، ويتزامن مع سقوط خطير لدول الشرق.
والمسألة التي نقصدها بالإنصاف هي أن القومية الكردية تعرضت لجملة مآسٍ وكوارث، ومُنعت من تشكيل دولة قومية كما حصل لشركائها من بقية القوميات الثلاث في الشرق، وأن التوظيف أو التواطؤ السياسي -الذي يُتهمون به- هو أيضاً حافلٌ لدى العرب كما غيرهم، وهو أيضاً مثبت في نسيج حكايات الإخوة الأتراك عن الخيانات في تاريخهم السياسي الحديث، وفي التاريخ العثماني.
لكن الإشكال أيضاً يكمن في أن القومية الكردية ذاتها تعيش صراعات ليست سهلة، فالأيديولوجية الماركسية التي يؤمن بها حزب العمال الكردستاني لم تضمن له الاستقلال عن التفويج الغربي المصلحي بل العكس، إذ استُخدم لمطاردة المؤسسات الكردية الإيمانية والاجتماعية المرتبطة بالروح الإسلامية.
لا لشيء إلا لكونها رابطَ استقرار اجتماعي مع شركائها في أقاليمهم، ولم يكن هناك تقدير مصالح نسبي يُحسب به حجم ما حققته مرحلة حزب العدالة والتنمية لمصلحة المواطنين الكرد في تركيا، والانسجام الاجتماعي الشعبي مع إخوتهم الأناضوليين، رغم المصادمات الأمنية الصعبة والمروعة للشعبين بين حزب العمال والجيش والأمن التركييْن، والتاريخ المروّع منذ مذابح كمال أتاتورك ومآسي التغريبة الكردية.
لكن قواعد اللعبة الدولية كانت ترى أن كردستان يجب أن تبقى بعد تهذيبها، فقد كان أمام الرئيس مسعود البارزاني -الذي أعلن تنحيه عن رئاسة الإقليم- فرصة تاريخية لالتقاط اعتراض الأتراك الشديد ورسائلهم القوية، والاتجاه نحو صفقة تضمن بقاء وحدة العراق، وقوة الإقليم مع مشروع وحدة وطنية مع السُّنة والوطنيين العراقيين، خارج البيت الشيعي المسيطر عليه من إيران.
وكان من الممكن أن يؤسس هذا الاتفاق لمرحلة ضرورية جداً للأشقاء الأتراك، يُعاد عبرها طرح مشروع مصالحة مع الكرد داخل تركيا، ولكن لم يحصل هذا الأمر في حينه، وانهار مشروع الاستفتاء الذي صادف رفضاً غربياً خشية من تأثيره على مشاريع انفصال غربية تستعر اليوم في كتالونيا وغيرها.
كما أن هناك لعبة إيرانية أميركية خاصة أنهت هذه المرحلة من الصعود الكردي، وسواءً كان ذلك لفشل أميركي وإعادة تموضع خضوعاً لقوة إيران، أم كان لرغبة ذاتية تتعلق بحسابات واشنطن؛ فالنتيجة واحدة.
وفي هذا الضلع الثاني تحتاج النخبة السياسية الوارثة لمسعود البارزاني -وكذلك صانع القرار السياسي بأنقرة- إلى تركيز استراتيجي، وأن يعيروه اهتماماً بالغاً لمصالحهما، ويقدروا ما يُمكن أن يتحقق لهما ولشعبيهما.
وهذا بالطبع يطرح سؤالاً دقيقاً اليوم: هل هناك وراثة جيدة وأفضل من عهد البارزاني؟ وهل ستَترُك إيران النخبة الكردية تتشكل ذاتياً، أم ستصنع منها بيتاً كردياً -كما صنعت بيتاً شيعياً تحت قبضتها اليوم- كعملية سياسية ومجتمع، أمام قرار شيعة العراق؟
إن أنقرة نجحت -في آخر المنعطف- بحماية شخصيتها من التورط العسكري في كردستان، لكن لا يزال الملف معلقاً ووضعه حساس، فتحديات قلب الغرب الطاولة على أنقرة قائمة، وتجارب تركيا -التي فشلت في الموصل وفي مجمل ميدان الثورة السورية- لا تلغي دور مؤامرات أعداء الثورة ضد أنقرة والشعب السوري، لكن أيضاً يظهر كيف ساهم فشل اجتهادات تركيا السياسية -رغم دورها الإنساني المركزي- في خسائر كبيرة.
لقد أرادت أنقرة تحقيق مساحات ردع ميدانية لحدودها بدلاً من دعم إعادة صناعة الثورة استراتيجياً، وبالتالي ستكسب به تأميناً أفضل بكثير لحدودها لو دعم تشكيل الجيش الحر وأعيد تنظيمه بعد نكسة 2013، وحُمي من اختراق السلفية الجهادية للميدان الذي انقلب في النهاية على الجانب التركي، الذي اضطر إلى أن يفاوض الروس دون أي ضمانات لما بعد انتهاء الثورة السورية.
وبالتالي لا بدّ من عقد الشراكة والانفتاح على كردستان العراق في استقلال عن أطماع إيران، التي لا نسقط أهمية التنسيق التركي معها، في ظل لعبة الأمم الكبرى ووجود تحالف خليجي مع إسرائيل، لكن الذراع الكردية الخاصة بإيران في شمال سوريا لا تزال مرشحة لأدوار ضدّ ما بقي من الثورة السورية ومناطقها وضدّ تركيا.
إننا لا نطرح مثاليات، بل حتى المبادئ ليس لها حضور في ظل المصالح المتصارعة داخل أمم الشرق، وفي وضع العرب البائس؛ لكننا نُذكّر بتحقيق معادلات نسبية مهمة لدفع أكبر الضرر وتحقيق أكثر مساحة ممكنة لمصالح قوميات الشرق، والنجاة من الحروب، وكردستان إيران -كضلع ثالث- تبقى اليوم الأضعف في قدرات التفعيل لساحتها، لقوة هيمنة نظام طهران -رغم كل الضجيج الذي يثار عنها- وللاضطهاد التاريخي لعلمائها ولأبنائها.
والمدخل هنا -سواء لإقليم الأحواز العربي المحتل أو كردستان إيران- يقوم على دعم النضال الحقوقي السياسي للإقليم، وهو مسار بدأت أنقرة التفكير عام فيه 2016 لأكراد إيران، رداً على مشروع إيران مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» (PYD) الكردي بقيادة صالح مسلم.
وقد ينتهي اليوم دون أن تنهي طهران مشروعها، والموقف الذي ندعو له هو السعي في دعم حقوق هذه الجماعات والشعوب من أمم الشرق، دون توريطها في مشروع عسكري يعمل له البعض مع الإسرائيليين.}