خورشيد دلي

مع بدء معركة الموصل ما زالت تركيا تبدي رغبة شديدة بالمشاركة في هذه المعركة وكذلك في معركة الرقة، وتستند الرغبة التركية هذه إلى جملة من العوامل التاريخية والجغرافية والسياسية والأمنية، ولكنها تثير ردود فعل غاضبة، لا سيما من قبل بغداد ومن خلفها إيران الدولة التي تنافس تركيا تاريخياً في منطقة المشرق العربي. ولهذه الحساسية الكبيرة إزاء الدور التركي علاقة بأهمية معركتي الموصل في تحديد مستقبل العراق، وسوريا وطبيعة القوى التي ستحكم المنطقتين بعد تحريرها. 
أسس الدور التركي 
لا يمكن النظر إلى الدور الذي تتطلع إليه تركيا في معركة الموصل بعيداً عن البعد التاريخي الذي عرف بمسألة الموصل، بعد أن حسمت اتفاقية أنقرة عام 1926 مع العراق وبريطانيا السيادة على ولاية الموصل (كانت ولاية الموصل وقتها تعني كل شمال العراق) لصالح الدولة العراقية، ففي هذه الاتفاقية عدد من البنود التي ترى تركيا أنها تضمن لها حق التدخل العسكري في الموصل، منها ما يتعلق بحماية الأقلية التركمانية، ومنها ما يتعلق بالحفاظ على وحدة الأراضي العراقية، حيث تقول أنقرة إن العراق منقسم عملياً اليوم، وإن ما يجري فيه يشكل تهديداً لأمنها القومي.
مقابل هذه الرؤية التركية، ترى بغداد أن اتفاقية أنقرة حسمت قضية السيادة العراقية على الموصل، وأن أنقرة اعترفت بالحدود الحالية، وبالتالي فأي حديث عن دور تركي في الموصل بعيداً عن الاتفاق مع بغداد هو اعتداء على السيادة العراقية، كما أن أي وجود عسكري تركي هناك هو احتلال لأراض عراقية.
ومع أن الجدل التركي العراقي المتصاعد لا يدور علناً حول هذه الاتفاقية، إلا أنه يعكسها بطريقة أو بأخرى، فالموصل لها أهمية كبيرة في استراتيجية تركيا، والأخيرة في سبيل ذلك ذهبت إلى عقد اتفاقيات مع قيادة إقليم كردستان العراق وقوات الحشد الوطني التي تضم قبائل سنّية، وأقامت ما يشبه قاعدة عسكرية في بعيشقة لتدريب هذه القوات. ومع أن مسألة التدخل العسكري التركي لإعادة ضم الموصل مستبعدة، إلا أن تركيا ترى أن مرحلة ما بعد تحرير الموصل ستكرس أدواراً ومحاصصات إقليمية في ظل الاشتراط الأميركي بمنح دور أساسي للعرب السنّة في تحرير المدينة وتحديد مستقبلها. 
خلافاً لمعركة الموصل، فإن محددات الدور التركي في معركة الرقة تبدو مختلفة، وهذا ما يتضح من الشروط التي وضعتها أنقرة للمشاركة في هذه المعركة، والتي تتلخص في استبعاد وحدات حماية الشعب الكردية من المشاركة في هذه المعركة، حيث ترى أنقرة أن مشاركة هذه الوحدات ستعطي دفعة قوية للمشروع الكردي على حدودها الجنوبية في شمال سوريا، خاصة أنها تعتقد أن من يقف وراء هذا المشروع هو عدوها اللدود، أي حزب العمال الكردستاني.
عقبات ورهانات
من الواضح أن الدور الذي تتطلع إليه أنقرة في معركة الموصل يلقى رفضاً قاطعاً من قبل بغداد، فقد تحول الجدل بين العاصمتين بهذا الخصوص إلى حرب تصريحات إعلامية وتبادل استدعاء للسفراء، وسط تحذيرات من الحكومة العراقية بأن أي تدخل عسكري تركي سيؤدي إلى حرب إقليمية، ومطالبة تركيا بسحب قواتها من بعيشقة، بل ومحاسبة الأطراف العراقية التي تدعو إلى دور تركي في معركة الموصل. لكن رفض الحكومة العراقية ليس العقبة الوحيدة في وجه مسعى أنقرة التي تعتقد أن غموض الموقف الأميركي هو السبب الأساسي في ظهور مثل هذا الجدل.
ففي الوقت الذي تعتبر فيه تركيا دولة أساسية في التحالف الدولي في الحرب ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في العراق وسوريا، ومن على أراضيها في قاعدة انجرليك تنطلق طائرات التحالف لضرب مواقع داعش في البلدين، صدر أكثر من تصريح من قادة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، يقول إن القوات التركية الموجودة في العراق ليست في إطار قوات دول التحالف الداعمة للقوات العراقية في الحرب ضد داعش، وهو ما يثير استفهامات تركية كثيرة، تطال الساحة السورية أي معركة الرقة، وتحديداً لجهة الإصرار الأميركي على توطيد العلاقة مع وحدات حماية الشعب التي يشكل الكرد عمادها، خاصة أن الشروط التي وضعها الكرد للمشاركة في معركة الرقة تشكل ضربة للسياسة التركية.
وفي المحصلة قد تسفر معركتا الموصل والرقة دون مشاركة تركيا عن تعزيز التطلعات الكردية في العراق وسوريا، على شكل اتصال جغرافي بين مناطقهم في البلدين، وهو ما قد ينسحب على التواصل مع كرد تركيا، فيما ترفض أنقرة مثل هذا الأمر، وتنظر إلى مشاركتها في معركة الموصل على أنها ضمانة لإبقاء المناطق الكردية في هذه الدول معزولة وغير قابلة لأن تتحول في المستقبل إلى دولة مستقلة.
العقبات التي تواجه الدور التركي في معركتي الموصل والرقة كبيرة، لكن من الواضح أن تركيا تراهن على طبيعة معركة الموصل بأنها معركة مصيرية لا تقبل الفشل، فهي تتعلق بالقضاء على أقوى تنظيم عسكري في المنطقة، وأن مثل هذا الأمر قد يجعل من المستحيل على الإدارة الأميركية خوض هذه المعركة من دونها، خاصة أن هذه الإدارة تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية بعد أسابيع قليلة، وستكون لنتائج هذه المعركة أكبر الأثر في صناديق الانتخابات.
سيناريوهات مفتوحة
الأسئلة بشأن المشاركة التركية في معركة الموصل تبقى قائمة، طالما أن المعركة لم تدخل في المرحلة الأهم منها، وطالما أن السيناريوهات والخطط العسكرية شبه سرية، وأن واشنطن حريصة على أوسع مشاركة فيها، خاصة أنها تطمح إلى أن تكون المعركة سريعة وحاسمة تترك تداعيات مدوّية على الأرض وفي صناديق الانتخاب معاً، ولعل الاعتقاد بأن معركة الموصل ستكون على هذا النحو، دفع بكثيرين إلى توقع أن تتحول معركتا الموصل والرقة إلى معركة واحدة، خاصة بعد أن قامت قوات التحالف الدولي بنسف العديد من الجسور الحيوية في محافظتي دير الزور والرقة في سوريا، وتقديم المزيد من الأسلحة إلى قوات سوريا الديمقراطية، وإقامة مطارات وقواعد عسكرية في المناطق الكردية.
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا، هو ماذا لو فشلت الإدارة الاميركية في تأمين مشاركة تركيا في معركة الموصل بسبب رفض بغداد؟ وماذا لو فشلت هذه الإدارة أيضاً في الجمع بين الحليفين التركي والكردي السوري في معركة الرقة؟ سؤالان يلخصان مأزق المشاركة التركية في معركتي الموصل والرقة من عدمها.
الثابت أن عدم مشاركة أنقرة في المعركتين، يطرح سيناريوهات كثيرة، منها الحد أو حتى وقف مشاركتها في الحرب ضد داعش في سوريا والعراق، لا سيما أن لديها ورقة قوية تتمثل بإغلاق قاعدة إنجرليك أمام قوات التحالف الدولي في هذه الحرب.
في جميع الأحوال، لا تتخيل تركيا معركة الموصل دون مشاركتها، لا للأسباب التاريخية أو الإشكاليات القانونية والحقوقية التي تحدثنا عنها، بل لأنها تعتقد أن مثل هذه المعركة لن تكون حاسمة ومصيرية من دونها، فهي (تركيا) أقرب الدول جغرافياً إلى الموصل وتقدم أراضيها لما عليها من قواعد إمكانات عسكرية وخطط بديلة للاحتمالات التي قد تظهر خلال سير المعركة، فضلاً عن كونها عضواً في الحلف الأطلسي وحليفة لواشنطن رغم الخلافات والتباينات. ولعل ما سبق كفيل بوضع جميع السيناريوهات على الطاولة.