ماجد أبو دياك

صدقت سريعاً التوقعات بسلوك دونالد ترامب السياسي بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة؛ فكان التصعيد ضد إيران بمحاولة تغيير الاتفاق النووي معها، وسعيه إلى تغيير سياسة بلاده تجاه وكوريا الشمالية والصين، ما يهدد السلام في المنطقة ويؤدي إلى إثارة الصراعات في العالم. وذلك بعد أن نجح سلفه باراك أوباما في تسكين ملفات الصراع مع الصين وكوريا الشمالية، وتأجيل حل الصراع العربي الإسرائيلي بعد أن فشل في انتزاع تنازلات من إسرائيل، وعلى الأخص في ملف المستوطنات.
توجهات نحو الصراع
على عكس سياسة الوفاق الدولي التي تبناها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر؛ جاءت سياسة الرئيس الحالي ترمب معتمدة على استخدام القوة الناعمة والتلويح بالخشنة لفرض المواقف الأميركية، كما خالف بذلك أيضاً سياسة سلفه أوباما الجانحة للحوار لحل الإشكالات السياسية.
وقد عمد ترامب إلى اختلاق أزمات عالمية في الإطار الاقتصادي (الصين)، والإطار النووي (كوريا الشمالية)؛ في محاولة منه لتطبيق هذا المبدأ.
وبالنسبة إلى الصين؛ تفاقمت الأزمة على خلفية الرسوم الإضافية التي فرضها ترامب على الواردات الصينية، ما سيؤدي إلى إضعاف التنافسية بين البلدين في مجال التجارة، ويسهم في حرب اقتصادية تضر بالاقتصاد الصيني، وربما تتطور إلى خلاف سياسي يدفع الصين باتجاه التخلي عن مواقفها المهادنة في العلاقات الخارجية.
وعلى النقيض من ذلك؛ جاءت موافقة ترامب على دعوة رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون للقاء بينهما مفاجئة، ما سيكون –إن تحقق- المرة الأولى التي يلتقي فيها رئيس أميركي مع زعيم كوري شمالي، في تاريخ علاقات البلدين، وهو ما سيعدّ حدثاً تاريخياً يساهم في الحد من السباق النووي بين البلدين، بعد أن برز شبح الحرب النووية بين المعسكرين الغربي والشرقي.
إلا أن من الصعب الحكم -من خلال ذلك- على السياسة الجديدة للرئيس الأميركي، التي ترجح استخدام القوة أو التلويح بها في العلاقات السياسية. وهكذا اتجهت الأمور بشكل عام نحو الأزمات في عهد ترامب، بعد أن تمكن الرئيس السابق أوباما من تصفيرها على كافة الأصعدة.
وفي هذا السياق أيضاً؛ جاء تفجر الأزمة مع إيران في إطار الشبهات التي تدور حول برنامجها النووي. فقد أبدى ترمب رغبته في إعادة النظر في الاتفاق الذي رعته القوى الدولية (5+1)، وهذه السياسة الأخيرة ارتبطت برغبة إسرائيلية في التمهيد لتحجيم إيران، وإضعاف دورها في المنطقة وربما ضربها عسكرياً.
إن سياسات الرئيس الأميركي تجاه طهران ستُسفر عن تصعيد سياسي وربما عسكري مع طهران. ذلك أنه يعمل وفق تنسيق كامل مع تل أبيب لأسباب يعرفها الجميع.
ويبدو أن المستشارين الصهاينة والمتصهينين يقودون سياسة ترامب الخارجية، وعلى الأخص سياساته تجاه إيران والمنطقة عموماً، لمحاولة التساوق مع المطالب والسياسات الإسرائيلية، الأمر الذي يجعل هذه السياسات أكثر تطرفاً وانحيازاً للعدوّ، وهو ما ظهر في قرار ترامب الأخير بنقل السفارة الأميركية إلى القدس إثر اعتباره إياها عاصمة للكيان الصهيوني.
وربما كانت هذه السياسة وارتهانها للموقف الصهيوني من القضية الفلسطينية والقدس هي الأخطر، لأنها قد تؤدي إلى تفجير الصراع في المنطقة، مما ستكون له تداعيات إقليمية ودولية.
تهوّر وفشل محتمل
كان موقف ترامب من القضية الفلسطينية -وبالأخص من القدس وتشجيع عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني- علامةً فاصلة في سياسات ترامب لم يسبقه إليها أي رئيس أميركي، تمكيناً لدور إسرائيل في المنطقة وانحيازاً صارخاً لها، وضرباً للدور الأميركي في رعاية المفاوضات. وهي رعاية تميزت بها في السابق أميركا (في عهد بيل كلينتون وأوباما مثلاً)، ومكنتها من التعويل عليها في هذا الإطار -نظرياً على الأقل- لإنجاز تسوية نافذة وقابلة للاستمرار، تأخذ في الاعتبار مطالب الطرفين، لكنها تحقق مطالب الأمن الإسرائيلي على حساب الحقوق الفلسطينية.
وأدت السياسة الجديدة إلى ردود فعل سلبية، خصوصاً لدى السلطة الفلسطينية والأردن، فيما أدى تأييد دول عربية لها إلى ردود فعل عربية شعبية سلبية، أضعفت مواقف هذه الدول وجعلتها غير قادرة على تسويق المشروع عربياً.
صحيح أن ردة فعل الشارع العربي كانت دون المستوى المطلوب، ولكنها يمكن أن تتطور مستقبلاً وتتمكن من عرقلة المشروع في المنطقة، لا سيما أن قضية القدس ستظل تجمع الأمة حولها وتثير فيها عوامل التفجير. ومما لم ينتبه له مسوّقو مشروع التطبيع مع العدوّ أن عملهم هذا يؤدي إلى إثارة شرارات التفجر في المنطقة، ويدفع نحو إثارة عوامل الصراع وليس تهدئتها كما يظنون. كان يمكن ترامب أن يقود عملية سلام وتطبيع في المنطقة تكون لها فرصة نجاح لو أنه أخذ بالاعتبار معوقات هذه العملية، وسارع إلى تفكيكها بطريقة توازن نسبياً بين متطلبات من يقع تحت الاحتلال، والقوة القائمة بالاحتلال، وتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني من زاوية الأرض والمقدسات، والمطالب الإسرائيلية من زاوية الأمن. حيث أدى الإخفاقُ سابقاً في هذه المعادلة إلى فشل عملية التسوية في ظل التشدد الإسرائيلي. غير أن الرئيس الأميركي اختار طريقاً آخر قدم فيه الإجبار على التفاوض وخلط المطالب بالحقوق وانحاز إلى العدوّ، واختار أول وأهم قضية لينطلق بها في انحيازه إلى العدو وهي قضية القدس، وهذا بالطبع كان وصفة للفشل وإثارة مواقف كان في غنى عنها في المرحلة الحالية على الأقل.
لا يبدو أن ترامب قادر على تحقيق سياسة متوازنة في الصراع، ولا هو صاحب رؤية في هذا الموضوع تمكّنه من تحقيق تسوية سياسية شاملة، فها هو يقدم التطبيع على الحل السياسي، وينحاز بشكل صارخ للعدوّ في موضوع القدس، ويسعى لتوطين اللاجئين في سيناء مع ضمهم لقطاع غزة. ولا يدرك ترامب أن حلاً بهذا الشكل لا يمتلك أسس النجاح، ويتجاوز قوى المعارضة الرئيسية في المنطقة القادرة على عرقلة أي مشروع من هذا النوع أو السماح له بالتحقق.
وينقص هذا الرئيس الأهوج أن يعلم أن هناك مقاومة في فلسطين عصيّة على الاقتلاع، ولديها فعل حقيقي لا يزال يعمل على الأرض، فضلاً عن وجود معارضة لدى قوى الأمة الحيّة قادرة على الوقوف في وجه هذا المشروع الذي لا يتمتع بأسس للنجاح. كذلك فإن هناك ربيعاً عربياً كامناً وقادراً على استعادة نفسه ومواجهة الثورات المضادة التي لا تملك شرعية شعبية حقيقية حتى الآن! وفضلاً عن هذا، لا تزال القوى المنافسة لهيمنة ترامب في العالم تعمل وتتصدى لمشروعه، وتحاول أن توجد لنفسها دوراً فاعلاً بما أن الهيمنة والتفرد قد ولى زمنهما، فهناك قوى دولية صاعدة (الصين واليابان)، وأخرى موجودة فعلاً (أوروبا)، وقوى ثالثة تحاول استعادة دورها ومجدها (روسيا)، وهناك قوى أخرى تتمتع بنفوذ إقليمي واسع (إيران وتركيا).}