نبيل البكيري

يتموضع اليمن في الركن الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة العربية وللقارة الآسيوية. مطل على مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية الدولية، إذ يمر عبره ما يقارب أربعة ملايين برميل نفط، وأكثر من 21 ألف سفينة شحن سنوياً (بمعدل 57 سفينة يومياً)، ما يجعل هذا المضيق الذي يتحكم فيه اليمن، واحداً من أهم وأخطر المضايق المائية في العالم. وبسبب هذا الموقع الاستراتيجي لليمن -كعمق جيوبوليتيكي لمنطقة القرن الأفريقي في الجزيرة العربية وآسيا عموماً - وقربه من أغنى مناطق الطاقة بالعالم؛ كان محط أنظار القوى الدولية المتصارعة منذ أيام الرومان، وصولاً إلى هذه اللحظة التاريخية الأكثر دراماتيكية في السياسة الدولة والشرق الأوسط.
وانطلاقاً من هذه الزاوية؛ يأتي اليوم الحديث عن صراع دولي واضح في كل المنطقة المشتعلة واليمن في مقدمتها، من حيث تداعي دول الخليج في آخر لحظة قبل سقوط اليمن في يد المشروع الإيراني، من خلال جماعة الحوثي والرئيس السابق صالح، اللذين شكلا معاً تحالفاً يدين بالولاء لإيران. وتأتي أهمية اليمن بوصفه حلقة أخيرة في جهود تطويقها للجزيرة العربية، وهو ما يعني تطويق الخليج من كل الجهات. صحيح أن الإيرانيين لم يتدخلوا في اليمن بطريقة مباشرة مثلما فعلوا في المشهدين العراقي والسوري، من خلال ألوية الحرس الثوري والمليشيات التابعة لهم، إلا أنهم بذلوا جهداً كبيراً في اليمن منذ ثمانينيات القرن الماضي في بناء وتدريب جماعة الحوثي، وتنسيق علاقات واسعة مع أطياف يمنية مختلفة، في مقدمتها النخب اليسارية والشخصيات الاجتماعية الكبيرة، في سبيل تنفيذ مشروع السيطرة على اليمن وإلحاقه بإيران.
بيد أن اللافت في الأمر هو موقف أميركا منذ البداية من المشهد اليمني وجماعة الحوثي خصوصاً، وهو الموقف الذي اتصف بالانحياز الواضح إلى هذه الجماعة التي ترفع شعاراً واضحاً ضد أميركا.
وأذكر أنني كنت في لقاء مع السفير الأميركي السابق بصنعاء جيرالد فايرستاين في تموز 2012، فسألته حينها عن موقفهم من جماعة الحوثي، فقال لي بالحرف: لا مشكلة لدينا مع جماعة الحوثي، فقلت له: لكنها ترفع شعاراً عدائياً نحوكم؟ فقال: ليس كل من رفع شعاراً عدائياً هو بالضرورة ضدنا. وبمعنى آخر، إن الموقف الأميركي كان ينبع من استراتيجية أميركية بدأت تتعزز بقوة بُعيد التوقيع على الاتفاق النووي الأميركي الإيراني، الذي تجلى بعده -بشكل واضح- الموقف الأميركي من الأقليات الطائفية وتفضيل خيار التعاطي معها كبدائل حاكمة. وخاصة بعد أن تبيّن أن صناديق الاقتراع لن تأتي إلا بالقوى التنظيمية الأكثر انتشاراً وامتداداً شعبياً، وهو ما يعني صعود التيارات الإسلامية التي لا تتعاطى بلغة التنازلات الكبيرة في ما يتعلق بالقضايا المركزية لشعوبها وأوطانها، كحال الجماعات الطائفية التي تقدم هذه التنازلات ثمناً لبقائها حاكمة.
إن الاستراتيجية الأميركية -التي ترتكز بدرجة رئيسية على عداء كبير لأي توجه ديمقراطي حقيقي في المنطقة، ومن ثم ضد كل القوى الديمقراطية بدرجة رئيسية- تجعلنا نستبين بوضوح حقيقة الموقف الأميركي مما يجري في اليمن، وهو ما تجلى في موقف متماهٍ مع الانقلاب، ولولا المصالح الأميركية الكبيرة في المملكة العربية السعودية لكانت أميركا أقدمت على الاعتراف بالانقلاب، لكنها سعت بطريقة أو أخرى إلى مساندته عبر الضغط الدولي الكبير على الشرعية اليمنية والتحالف العربي. ونادت بضرورة التوجه نحو السلام الذي يعني الاعتراف بالانقلاب من خلال الجلوس مع الانقلابيين تحت مسمى «السلام»، وهو ما تجلى بشكل كبير في ما عُرف بمبادرة جون كيري للسلام في اليمن، التي لم يكتب لها النجاح نظراً إلى التحولات الانتخابية التي أتت بدونالد ترامب (الجمهوري) إلى الرئاسة الأميركية.
أما الموقف الروسي، فقد ظل واضحاً منذ البداية في ما يتعلق بعدم الاعتراف بالانقلاب، لكنه ظل على تواصل مع طرفَي الصراع: الشرعية والانقلاب، وظلت السفارة الروسية بصنعاء مفتوحة، واستقبلت موسكو وفداً من الحوثيين. لكن حالة الانسجام -التي ظهرت بين الإيرانيين والروس بدايةً في سوريا- لم تكن بذات القدر في الحالة اليمنية، وأكد الجانب الروسي مراراً احترامه لشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي واعترافه بها، رغم خطه المفتوح في التعامل مع الانقلابيين. وعلى الجانب الآخر، اتسم الموقف البريطاني بتطابقه الكبير مع الموقف الأميركي، مع الأخذ في الاعتبار العلاقة التاريخية بين اليمن وبريطانيا، وتجلى التطابق الأميركي/البريطاني في ما سُمي اللجنة الرباعية، التي تضم كلاً من بريطانيا وأميركا والإمارات والسعودية.
وكل ما صدر عن هذه الرباعية بخصوص اليمن عبّر بشكل واضح عن الموقف البريطاني من الانقلاب، وعن كيفية دمج هذا الانقلاب في صلب الشرعية، وشرعنة ما أحدثه الانقلابيون طوال فترة الحرب الممتدة لعامين كاملين. ومن كل ما سبق، يتضح أن المنطقة العربية -والخليجية تحديداً- تمر بأخطر مراحلها على الإطلاق في ما يتعلق بأمنها القومي والوطني على حد سواء.وبمعنى آخر؛ فإن تمكين الأقليات الطائفية وفقاً للمشروع الغربي (والأميركي تحديداً) في المنطقة، الذي تجلى بشكل كبير في دعم وإسناد تعاظم النفوذ الإيراني، هو الذي بات يحتم الانتصار في الحالة اليمنية، وعدم ترك المجال أمام إيران والغرب في رسم مستقبل المنطقة وإعادة تفكيكها. وبتالي فإن معركة الانتصار في اليمن يجب أن تكون في مقدمة أولويات عرب الخليج للحفاظ على ما بقي لهم من أوطان، لم يشملها القتل بالهوية والتهجير القسري والتغير الديمغرافي لسكانها، كما هو حاصل اليوم بسوريا والعراق.
وإن استمر الأمر في اليمن على هذا المنوال؛ فسنشهد تداعياً كبيراً للنظم السياسية القائمة في الخليج، وإعادة رسم خرائط جديدة لدويلات وكانتونات طائفية ومذهبية، تزخر بها منطقته كغيرها من البلدان العربية.
فاليمن كان وسيظل مفتاح العبور نحو المستقبل للمنطقة كلها أياًّ كان ذلك المستقبل، ما يحتم علينا أن نعمل كعرب على عدم تكرار المأساة العراقية ثم السورية، بتفادي عدم تقدير الموقف والسماح للأوهام بأن تحكم نظرتنا للمستقبل الذي يجب أن يُبنى على حقائق ثابتة ولو كانت مُرّة، وذلك للحفاظ على آخر ما بقي للعرب من كينونة في عصر تعصف بهم فيه التحديات الكبيرة، ويتكالب فيه الجميع على الجغرافيا العربية لإعادة تفتيت ما بقي منها، ولا يمكن تفادي هذا المصير ما لم يتم تدارك الوضع في اليمن بانتصار يعيد الاعتبار للإنسان العربي ودفاعه عن أرضه ووجوده وتاريخه.